لما حلت بالعالم آية كوفيد سنة عشرين وألفين، وألجأت الجميع إلى الانحباس في البيوت والانقطاع عن العالم الخارجي، استثمرتها فرصة للمراجعة والتأمل فيما يجريه الله في كونه وبين خلائقه من آيات سننية بينات دالات على مراد الله من خلقه في كونه، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فأدركت إدراك يقين أن الله جل وعلا يهيئ بأمره القدري للأمة الإسلامية ابتداء وللإنسانية انتهاء أمرا رشدا، بعد عهود من الظلم والفساد والإفساد في العالم إنسانيا وخلقيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وبيئيا، وغيرها، لكن ليس قبل مقدمات الابتلاء والتمحيص.
من هنا بدأت فكرة كتابي ما قبل الأخير “الأمة الإسلامية وإمكان الانتقال الحضاري”، وفي سياق قراءتي للتحولات العالمية الجارية، استوقفتني حالة فلسطين الاستثنائية، من وجهين: أولهما: حجم ما تتابع على فلسطين وأهلها من احتلال وعدوان وحصار وتآمر داخلي وخارجي عشرات السنين، وثانيهما: ما حبا الله به أهل فلسطين من الثبات والصمود والمقاومة والاحتساب، في تلك الظروف المعاكسة، على نحو غير معهود.
فلما أذن الله بانطلاق معركة طوفان الأقصى، بعد تجاوز التآمر المركب محليا وإقليميا ودوليا مداه، ازداد يقيني أن ما يجري في أرض فلسطين عموما وغزة خصوصا، بالكيفية التي يجري بها الآن، قدر الله الجاري المهيمن وفق سنة التدافع المانعة من خراب العمران وفساد الأرض، مصداقا لقول الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ (البقرة، 251)، يؤكده وعد الله للمؤمنين المجاهدين بالتمكين بعد بلاء وتمحيص، في قول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا (النور، 55).
ولا خلاف أن أهل غزة في بلاء عظيم لا يوصف، اندهش له العالم، وتعاظم اندهاش العالمين، لما قابل أهل غزة ما هم فيه، بشيوخهم وأطفالهم ونسائهم وشبابهم، بمنتهى المصابرة والمكابدة والثبات محتسبين حامدين ومكبرين، وكأنهم قوم من السلف تأخر بهم الزمن، فكانوا بذلك آية الله العجيبة في العالمين، غير الله بها حال العالم، وحرر الناس شرقا وغربا وشمالا وجنوبا من الدعاية الصهيونية التي ظلت تهيمن على عقول الناس بفعل الماكينة الإعلامية والدعم المالي السخي من اللوبي الصهيوني، وانقلب السحر على الساحر، فأخزى الله بطوفان الأقصى الصهاينة أمام العالم، وفضح جرمهم وخبثهم ووحشيتهم أمام خلق الله أجمعين، كما رفع الله بهذا الطوفان ستره على المطبعين والمخذلين والمرجفين والمتآمرين من العرب والمسلمين، فأحيا الله قضية فلسطين في قلوب خلقه أجمعين، بخواصهم وعوامهم، وهب الجميع لنصرة أهل فلسطين، والتنديد بجرائم الصهيونية في مختلف مناطق العالم.
ولعل معركة طوفان الأقصى العسكرية في أطوارها الأخيرة، ليحل بغزة وفلسطين نصر الله وفرجه وتأييده، بما صبر أهلها واحتسبوا، فيبدأ السقوط الاستراتيجي للكيان الصهيوني في فلسطين وفي العالم كله، وحينها يتسابق المطبعون والمرجفون لينتسبوا للنصر المنجز في غزة وفلسطين، مصداقا لقول الله تعالى: وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، لكن الله رد عليهم فضحا وتبكيتا في قوله: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (العنكبوت، 10). فسبحان من جعل من “طوفان الأقصى” فيصل التفرقة بين الصادقين في نصرة فلسطين، والمخاذلين للأمة ولفلسطين.