الإسلام أو الطوفان
أول مرة أسمع فيها عن كلمة “الطوفان”، هي ذات المرّة التي سمعت فيها عن الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. وذلك في أحد أيام صيف سنة 1989م، التقيت فيه بأحد الإخوة من العائلة، فقال لي يومئذ: هل تسمع عن رجل اسمه عبد السلام ياسين؟ فأجبته: لا. فقال: إنه العالم الذي بعث برسالة “الإسلام والطوفان” إلى الملك الحسن الثاني رحمه الله سنة 1974م، ينصحه فيها بالتوبة العمرية.
بعد ذلك وقعت الرسالة في يدي وقرأتها، لكن قراءتي وأنا تلميذ لم تستوقفها كلمة “الطوفان” المذكورة، بقدر ما استوقفتها الجرأة التي كانت في النصيحة لأعلى هرم في السلطة في زمن قلّت فيه كلمة حق عند سلطان جائر. فكانت الرسالة إحياء للنصيحة التي اعتاد كبار العلماء من المسلمين تقديمها لحكامهم تقويما لسلطتهم وتصرفاتهم في أمانة الحكم.
تمضي الأيام فتُطبع كتب للإمام رحمه الله، إما كتبها قبل رسالة “الإسلام أو الطوفان”، وإما كتبها بعدها يتحدث فيها عن “الطوفان”. من هذه الكتب: الإسلام غدا، العدل الاسلاميون والحكم، رسالة القرن في ميزان الإسلام، حوار الماضي والمستقبل، حوار مع صديق أمازيغي، الشورى والديمقراطية، مجلة الجماعة، قطوف الجزء (4)، الإسلام والحداثة، حوار مع النخبة المغربة، الرسالة العلمية، وغيرها. وبالرغم من قراءتي لكلمة “الطوفان” مرات عديدة لم أكن أستوعب حجم المعنى الذي تحمله وسط الحديث المتكرر والمستمر عنها، والذي كان يُحذر به الإمام رحمه الله الخاص والعام من الناس، من الأفراد والهيئات والأنظمة والدول.
الحرية أو الطوفان
في إحدى مكتبات المدينة، بينما أتصفح عناوين الكتب المصطفّة على الرفوف، إذ وقعت عيناي على كتاب بعنوان: “الحرية أو الطوفان” لمؤلفه الكويتي الدكتور حاكم المطيري، اشتريته في الحال رغم أنه ليس لي أدنى فكرة بالمؤلف ولا بالكتاب، فقط لأن ذلك العنوان يشبه عنوان رسالة “الإسلام أو الطوفان”.
قرأت الكتاب فوجدت أفكاره القيّمة فعلا تثير تقريبا نفس القضايا التي أثارها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في رسالته، وهي قضايا الحكم والعدل والشورى، وتفتل في تحقيق نفس الأهداف الإسلامية، وهي العودة بالأمة إلى شرف عزتها وكرامتها وقوتها بعد عهود من الفتنة والغثائية والضعف.
الكتاب عبارة عن دراسة موضوعية للخطاب السياسي الشرعي ومراحله التاريخية. فقد قسم الدكتور حاكم المطيري تاريخ الأمة إلى ثلاث مراحل رئيسية، وأعطى لكل مرحلة ملامحها التي تميزها عن الأخرى، وهذه المراحل هي:
الأولى: مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المنزل.
الثانية: مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المؤول.
الثالثة: مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المبدل.
وفي الأخير بناء على ما تقدم خلص المؤلف إلى مرحلة رابعة وإن لم يذكرها، هي مرحلة الإصلاح الذي لا يتم إلا عن طريق الحكم والسلطة 1.
إلى حدّ هذه الساعة بالرغم من اطلاعي على كلمة “الطوفان” في أكثر من كتاب لم يرق فهمي إلى استيعابها بالشكل المطروح في الفكر المنهاجي عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى. اليوم ومنذ انطلاق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، والذي نعيش أحداثه لحظة بلحظة، أدركت وأنا أعيد قراءة ما كتبه الإمام رحمه الله عن “الطوفان” حجم معنى الكلمة، وأنه رحمه الله كان يكتب لهذه المرحلة من الطوفان وخاصة ما بعد الطوفان، وللخواء الذي سيكون ما بعد الطوفان، وللخيبة التي ستأتي ما بعد الطوفان. وأن الطوفان سنة الله في القرى الظالم أهلها. وأن الطوفان حتمية تاريخية وضرورة تاريخية يدك بها الله تعالى الباطل ليبني المؤمنون بعد كنس الركام مستقبل العدل الذي لا يضام. وأن الإسلام سفينة النجاة ورابطة الجمع وقانون السلام لغرقى ما بعد الطوفان.
طوفان الأقصى
في أحد المجالس التربوية كنت أتحدث عن موضوع بعنوان “ولن تجد لسنة الله تبديلا”. وأثناء المناقشة سألني أحد الإخوة الحاضرين عن علاقة الطوفان الذي تحدث عنه الإمام رحمه الله بطوفان الأقصى. فكان مما أجبته به أن الطوفان الذي يتحدث عنه الإمام رحمه الله هو مرحلة انتقالية كبرى من حالة الاستضعاف إلى حالة الاستخلاف. وأكيد أن هذه المرحلة الانتقالية تحول كبير ليس بالسهل الهين، بل سيكون بعد مخاض عسير يعيشه العالم. والله تعالى إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب.
أما طوفان الأقصى وعلاقته بهذا الطوفان الذي يتحدث عنه الإمام رحمه الله، فقد يكون هو بدايته، وقد يكون جزءا منه، وربما يفتل فيه، وربما هو بعينه. لأن الطوفان الذي نراه اليوم بكل أحداثه العظام وقعُه وصداه ليس حبيس غزة وفلسطين فقط، بل تعدى كل الحدود إلى خلق امتدادات تفاعلية وتضامنية من مختلف شعوب العالم، وإلى فرض مواقف متباينة مساندة أو متخاذلة من مختلف دول العالم.
الكثير ممن كتب أو تحدّث عن الطوفان يعتبره تحولا كبيرا في العالم، وأن نتائجه منها ما يظهر يوما بعد يوم، ومنها ما سيظهر في المستقبل، وسيكون أثره أكبر مما يتصور. والملاحظ أيضا أن تأثير هذا الطوفان الأقصى لا ينحصر في وسائل الإعلام فقط، في عناوين أخبارها وتفاصيلها، بل له تأثير كبير في عقول وقلوب كل الناس في العالم، خاصة أصحاب الضمائر الحية من الفضلاء والشرفاء الذين عبروا عن هذا التأثير بمختلف مواقف التضامن والمساندة لأهل غزة أفرادا وجماعات وحتى دولا.
ثم إن هذا الطوفان الأقصى يمكن اعتباره صخرة صلبة تكسرت عليها كل مكونات الحضارة الغربية المعنوية والمادية التي طالما تبجحت بها. تكسرت عليها الحقوق بكل أنواعها (المرأة، الطفل، الحيوان، البيئة..)، القوانين والمواثيق بكل أنواعها، القيم والأخلاق بكل أنواعها. تكسرت عليها كل القوة العسكرية والأسلحة المتطورة. تكسرت عليها كل مخططات الاحتلال والتَّصهين والتهويد والتطبيع والتوسع، فأصبح الغرب بمثابة منزل تكسرت كل أبوابه ونوافذه، وكل الأجهزة التي بداخله، حتى بدا لكل الناس خرابا ينتظر السقوط والانهيار قريبا إن شاء الله.
قدر الله
كثيرا ما أتساءل عن وجه الشبه في العلاقة بين بلد فلسطين وبلد المغرب تاريخا وجهادا، أسماء وأفكارا، روحا ودعوة، همّا واهتماما، علما وعملا. فتبدو لي العلاقة عميقة ووطيدة، ليست من الصدفة بل من قدر الله الذي أمضاه لحكمة بالغة.
هناك المسجد الأقصى، وهنا المغرب الأقصى.
هناك حدث طوفان الأقصى، وهنا حديث عن الطوفان سنة الله.
هناك باب المغاربة، وهنا حنين وشوق ودعاء المغاربة.
هناك جهاد المرابطة على الثغور، وهنا جهاد المرابطة لتقوية الإيمان في الصدور.
مؤمنون ومؤمنات هنا وهناك، بروح واحدة في أجساد متعددة، يحدوهم أمل واحد وهمّ واحد، وهو الصلاة جميعا في المسجد الأقصى إن شاء الله ما بعد الطوفان.
اللهم انصر إخواننا في غزة وكل فلسطين وعجل بتحرير المسجد الأقصى من أيد الصهاينة الغاصبين. آمين.