يقين فلسطين بوعد الله
في القرن الواحد والعشرين، وفي عصر انتشار الملذات وتسهيل سبل الحياة للجميع، هناك بقعة في هذه الأرض التي نعيش عليها كانت وما تزال تعاني حصارا في شتى المجالات، ممنوعون من السفر خارج وداخل بلدهم؛ إنها غزة؛ بقعة صغيرة في فلسطين تضم عددا مهولا من السكان، تكدس سكاني يوصف أنه الأكبر في العالم. غزة هذا القطاع الذي كان وما يزال صامدا أمام العدوان الصهيوني الغاشم الذي ما يفتأ يمارس شتى أنواع الظلم والتعذيب كي يكسر شوكة المواطن الفلسطيني ويقطع رمقه الأخير كي تستمر دولته المبنية بالورق. لكن كل محاولاته المدعومة من الدول الأوروبية والأمريكية تبوء بالفشل أمام هذا الجزء الصغير المرابط من فلسطين.
إن غزة اليوم تجسد مجموعة من الصور التي ذكرت في القرآن. فأهل غزة اليوم كأصحاب الأخدود، وغزة اليوم كمومن آل فرعون، وحصارها يذكرنا بحصار رسول الله صلى الله وسلم وقبيلته بشعب أبي طالب. تغير الزمان والعدو واحد، تبدلت الأحوال و الطريقة نفسها، التجويع من أجل التخلي عن الدين. لكن حال هؤلاء الصابرين في هذا الزمن كحال الصابرين في زمن رسول الله صلى الله. حال النساء بغزة الحبيبة يشبه حال سمية أول شهيدة في الإسلام، وحال الرجال كحال ياسر، وحال المسجونين كحال بلال معذبا تحت الشمس ليقول كلمة الكفر. صبر الأولون واثقين بوعد الله بأن يعم الدين جموع البقاع، باذلين لذلك النفس والمال والولد ابتغاء مرضاة الله. ولقد أتم الله لهم وعده، وعم الدين العالم أجمع تصديقا لقول رسول الله سيد الأنبياء والمرسلين.
إن ذلك الوعد وذلك اليقين الذي تشبع به الصحابة رضوان الله عليهم، وتصديقهم لقول خير المرسلين، هو الذي دفعهم لبيع الدنيا وشراء الآخرة. وكذلك في غزة، هو نفس الوعد من الله بالنصر مهما تعددت البلاءات واشتدت قوة العدو فهو حتما إلى زوال. لأنه قول خالق الأكوان الذي بيده مقاليد كل شيء.
إن أهل غزة مدركون لحقيقة بلواهم ويعلمون أن وعد الله متحقق في فلسطين، بهم أو دونهم، ويعلمون أن كل فرد منهم له الخيار إما أن يدافع عن دين الله فينصر به، أو يتخلى فيخذل ويهزم، ولهذا نرى جهودهم وتضحياتهم غير المشروطة رغم الألم والخذلان، همهم واجبهم وموقعهم في المعركة لا موقع عدوهم وصديقهم في بلاد أخرى. عرفوا حقيقة الأمر فلزموه، فاشتغلت النساء بتربية الرجال الصابرين المجاهدين، وانشغل الرجال بالتدرب دفاعا عن الدين.
إن صبر أهل غزة على الجوع والفقد والقتل والحرب هو انبثاق من إيمان عميق ويقين جلي بنصر الله لعباده المؤمنين بالأسباب التي يشاؤها هو سبحانه وتعالى في التوقيت الذي قدره بحكمته، فيعلي شأنهم ويضاعف حسناتهم إن شاء جزاء على رباطهم ودفاعا عن أولى القبلتين. قد يتحقق وعد الله فيهم أو في الجيل الذي يليهم، لكن المهم بالنسبة لكل مسلم غزاوي هو موقعه من المعركة وصبره فيها، همه أن يكون من الفئة المنصورة مع مرور الزمن وليس الفئة المخذولة، وهذا هو الذي يزكي في المومن الصبر واليقين، لأنه لا يصبح متعلقا بالنتيجة أو السبب بل متعلقا بربهما. وهذا ما لفت نظري في أهل الرباط في فلسطين؛ علمهم أن تحقيق النصر لله سبحانه وتعالى، وبذل الأسباب والرجال هو للعباد، ووعد الله صادق غير مخلوف.
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء: 7].