لم نتعود في المغرب أن نرى قضاة ببذلتهم المهنية يحتجون. ولم نكن نتوقع أن يصل الأمر بهذه النخبة ذات المكانة العريقة، والرمزية التاريخية، إلى درجة الخروج إلى الشارع العمومي لتعلن صرختها التاريخية مطالبة باستقلال القضاء. كدنا نعتقد أن الإغراءات المادية، واستشراء الفساد كفيل باستئصال جذور الكرامة والشهامة حتى داخل هذا القطاع ذي المكانة العالية. لكن الأمة بخير والحمد لله. إن المطالبة باستقلال القضاء مطلب شريف يستلزم من أحرار المغرب، وعقلائه، ونخبه، وسياسييه، ومجتمعه المدني، ومن كافة الشعب أن يقف له وقفة إجلال. إن هذا المطلب له دلالة عميقة، فهو شهادة أمام التاريخ لرجال ونساء يحق لهم أن تخلد أسماؤهم إلى جنب من قدموا عريضة المطالبة بالاستقلال. فأولئك طالبوا باستقلال البلاد، وهؤلاء يطالبون باستقلال أهم ركن في بناء البلاد وحماية العباد، وهو القضاء. لا وجود لدولة ليس فيها عدل، ولا عدل بلا قضاء قوي نزيه ومستقل.
عندما تصدر الأحكام الجائرة في حق الأبرياء، حينما يزج في السجون بالمناضلين السياسيين والنقابيين، وبالمفكرين والعلماء، وبالمعارضين والإعلاميين… حينما تلفق التهم الجنائية والإرهابية وغيرها… فإن أول من يهان في هذه المهازل -قبل المظلومين- القضاة. لن تنسي أموال الدنيا، ومتعها، ومهجها كلها، مأساة وتعاسة قاض يفرض عليه أن يكون ألعوبة في مسرحية قذرة يزج بعدها في السجن بإنسان بريء. فيبعد عن ذويه وأبنائه، وتنتج عن القرار مآسي وتبعات قد تمتد إلى ما بعد رحيل القاضي ومن كلفه بالجرم. يرحل الناس عن هذه الدنيا مخلفين وراءهم صدقات جارية، وعلما ينتفع به، وولدا صالحا يدعو لهم. ويرحل القاضي غير المستقل مخلفا وراءه نكبات جارية، وأحكاما يمحن الناس بها، وضحايا يدعون عليه. إن احتجاج قضاة المغرب دليل على يقظة الضمير، وعودة الإحساس، وإيذان بعودة مكانة وقدسية القضاء. لم يكن يتولى القضاء في تاريخ الأمة الإسلامية، لما كان لها وجود، إلا صفوة الصفوة، ونخبة النخبة من كبار العلماء الصلحاء الذين لا يخافون في الله لومة لائم. وكان هؤلاء الكبار يرفضون هذه المهمة في ظل أنظمة الجور والطغيان، لعلمهم أن الاستبداد لن يضمن لهم الاستقلالية، بل سيسخرهم ضد معارضيه. كانت آخرتهم أسمى وأجل من الدنيا وما فيها، فزهدوا في منصب لن يوفوه حقه، ويتحملون وزره. ولما افتقد العدل خربت الأمة؛ فالظلم مؤذن بخراب العمران كما قال ابن خلدون في المقدمة. وحين انتقلت القوة إلى الغرب، كان العدل أساس الحكم وركيزة بناء الدول… كان تشرشل في الحرب العالمية الثانية لا يسأل عن شيء مثلما يسأل عن العدل والقضاء. إنه سر قوة البلدان. أورد الإمام السيوطي في تاريخ الخلفاء أن الجراح بن عبد الله كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إن أهل خراسان قومٌ ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن في ذلك. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت؛ بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم. والسلام.
وجاء في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني أن أحد عمال عمر بن عبد العزيز كتب إليه يقول: إن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يرمّها به فعل، فكتب إليه عمر: أما بعد فقد فهمت كتابك، وما ذكرت (…) فإذا قرأت كتابي هذا، فحصّنها بالعدل، ونقِّ طرقها من الظلم، فإنه مرمَّتها، والسلام.
ألفنا خروج فئات مختلفة من شرائح المجتمع تطالب بمطالب مادية مشروعة، لكن مطالبة القضاة باستقلال القضاء مطلب تاريخي شريف يعلو فوق كل المطالب، وينبغي أن يقف جميع المغاربة إلى جنبه. إنه مطلب يؤكد أن القضاء لم يكن مستقلا، وأن هذا الاحتجاج إنما هو صرخة صدور ضجت من ضيق التعليمات الجائرة. فليكن أول سامع لهذه الصرخة المكتوون بلظى قضاء التعليمات، القابعون خلف قضبان الجور، وعائلاتهم، ودفاعهم، وكل من يحن إلى دولة فيها قضاء.
فتحية إجلال إلى القضاة المطالبين بالاستقلال.