قضية العلم برؤية منهاجية.. قراءة في كتاب الرسالة العلمية

Cover Image for قضية العلم برؤية منهاجية.. قراءة في كتاب الرسالة العلمية
نشر بتاريخ

تقديم

يشكل كتاب “الرسالة العلمية” حلقة مركزية ضمن سلسلة الرسائل التي حررها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، والتي ضمت: رسالة الإسلام أو الطوفان، رسالة القرن في ميزان الإسلام، مذكرة إلى من يهمه الأمر، الرسالة العلمية، يوم المؤمن وليلته، رسالة تذكير، رسالة إلى الطالب والطالبة، ووصيتي.

وقد وجهت “الرسالة العلمية” إلى أعضاء اللجنة العلمية لجماعة العدل والإحسان، حيث فرغ الإمام من كتابتها ليلة الأحد 24 رمضان 1417هـــ/2 فبراير 1997م، وطبعت طبعة أولى سنة 1421هـ/2001م، ثم أعيد طبعها بعد تنقيح وتصحيح سنة 1444 هــ/2022م، عن “دار إقدام للطباعة والنشر.”

يبلغ عدد صفحاتها 86 صفحة، وتحتوي على 233 رسالة يسعى من خلالها الإمام إلى إعادة بناء المفاهيم المتعلقة بـ”العلم” و”العالم” على ضوء المنهاج النبوي. فهي دعوة صريحة للانعتاق من الفكر التغريبي الإلحادي الذي فرض على العقل المسلم أنماطا فكرية لا تستند على الوحي ولا تهتدي به، بل تؤسس لمنظور مادي يعزل الإنسان عن غايته الوجودية.

وإلى جانب ذلك، تنتقد الرسالة الجمود الفقهي التقليدي، الذي حصر الدين في قفص التقليد المرتهن بزمانه ومكانه، وأعاق انبثاق الاجتهاد. في مقابل ذلك، تؤكد الرسالة ضرورة التشبث بالوحي مصدرا للهداية، ومخرجا من الأزمات المتراكمة التي تعانيها الأمة.

فما هي أهم مضامين الرسالة العلمية للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله؟

سنحاول  من خلال هذا المقال أن نسلط الضوء عليها من خلال مبحثين رئيسيين: أولهما يتناول معالم العلم المنهاجي المنشود، وثانيهما يقف على العالِم الرباني النموذجي.

1- معالم العلم المنهاجي المنشود

1.1- العلم بين مطرقة التغريب وسندان التقليد

يشخص الإمام عبد السلام ياسين في كتابه “الرسالة العلمية”، الأزمة المركبة التي أصابت قضية العلم عند المسلمين، والتي تتداخل فيها آفتان اثنتان: آفة التغريب التي جعلت العلم عدوا للدين، ونزعت عنه روح الإيمان، وآفة الجمود الفقهي الذي حول الدين إلى طقوس معزولة، وفصله عن قضايا الإنسان والمجتمع. فكانت النتيجة علماً بلا إيمان، وفقها بلا حركة، وعقلا مسلوبا بين مستورد دخيل وموروث عاجز عن التجديد. فالعلم المنفصل عن الإيمان هو علم مادي لا يتجاوز كونه معرفة جافة، فقدت بوصلتها فأصبحت خادمة للمصالح لا بانية للقيم. وغرقت في الماديات حتى غدت مهووسة بالخلود، لا ترى في الموت واعظا بل عائقا أمام رفاهيتها. هذه المعرفة أنتجت لنا نخبة من فنانين وسياسيين ومثقفين… يصدر عنهم فكر مادي فارغ من ذكر الله، ومن التذكير بلقاء الله. وصنفت الناس إلى صنفين اثنين، فمنهم من انخرط فيها وتبنى مبادئها، ومنهم من تأثر بها بسبب غزوها لوسائل الإعلام.

في المقابل، أدى الجمود الفكري والفقهي إلى تعثّر الحركة العلمية داخل المجتمع الإسلامي، حيث حصر كثير من العلماء جهودهم في حفظ النصوص وتكرار الفتاوى دون تجديد أو تطوير يتناسب مع مستجدات العصر. واستندوا بحمية على منطق الجدال الجاف والرد على الخصوم دون أي إلمام بالتحصيل العلمي ومواكبة ما ينكشف في مجال الفيزياء والكيمياء وعلم النفس… وتبنوا الموقف الدفاعي المتكرر الذي لا يعبر عن حضور علمي حقيقي حتى أصبح الخطاب الإسلامي غير قادر على مقارعة هذه التحولات.

1.2- علم جامع بين الدعوة والدولة

بعد أن بيّن مظاهر الأزمة المركبة التي أصابت مسألة العلم في واقع الأمة، نتيجة التغريب والجمود، يعرض الإمام عبد السلام ياسين في رسالته العلمية، الملامح المنهاجية الكبرى للعلم الجامع بين “الحكمة” و”فصل الخطاب”. فالحكمة قضية صادقة، الحكمة علمُ القرآن، الحكمة النبوة، الحكمة فهمُ حقائق القرآن. وفصل الخطاب ما يفصل الحق من الباطل 1.

إن العلم المنشود، في هذا التصور، هو ذلك العلم الجامع لما تفرق في الأمة من أمور الدين والدنيا، الدعوة والدولة، الوحي والعلم. علم لا ينهض في واقع الأمة إلا على أنقاض الإلحاد، بعد زرع الشك في قلب مسلماته، وسياسات التغريب التي جعلت من المسلمين مجرد مقلدين لفكر فلسفي تكفيري دخيل عليهم، يقصي المرجعية الإسلامية ويعتبرها، في أحسن تقدير، حرمة ثقافية تحترم شكليا لا عمليا. علم موصل إلى الله، دال عليه، يعري قصور العقل البشري وحاجته إلى الوحي كبديل رباني يرشد الإنسانية إلى خلاصها. علم يتجاوز الاجتهادات الفقهية المرهونة بزمانها ومكانها والمحدودة في أحكام الطهارة والوضوء، ويراعي الواقع وما يعتريه من موار ومواج. علم يبني جيل الصحوة المسلح بالعلم الكوني على أرضية العلم بالله، والعلم بالآخرة، ويصنع النخبة المؤمنة التي تقود إلى الإصلاح الشامل. علم يشد بموجبه السلطان “فاصل الخطاب” عضده بالحكمة والنبوة والقرآن في مواجهة موجات الإلحاد والغزو الفكري.

2- العالم الرباني النموذجي

2.1- المثقف كما يريده الإسلام: من حامل معرفة إلى حامل رسالة

إن مفهوم الثقافة، كما يعرضه الإمام عبد السلام ياسين، مفهوم ذو شجون، تتعدد دلالاته وتتشابك مسالكه. فقد عرفه كل تيار بحسب مشربه الفكري ومذهبه الإيديولوجي، حتى أصبحت الكلمة نفسها تثير هالة من الهيبة والتقديس، لا لِوُضوح معناها، بل لغموضه ومرونته التي جعلت منها مصطلحًا محمَّلًا بأوزان فكرية أكثر مما تحتمل. يرصد المؤلف أصنافا ثلاثة من المثقفين في رسالته؛ فهناك الملحد المشكك المنبهر من النموذج الغربي، وقد نصب نفسه عدوا للوحي وجعل عقله مرجعه الوحيد. ثم المثقف صاحب الإسلام الوراثي، الذي ينحدر من بيئة مؤمنة لكنه متشبع بثقافة دخيلة لونت تصوره عن الإسلام والحياة. وبين هذين الطرفين، نجد المثقف الراجع إلى دينه، وهو أحوج ما يكون إلى صحبة العالم الداعية، كي تتحول يقظته إلى إيمان، وإيمانه إلى سلوك، وسلوكه إلى مشروع قومة. هذه النماذج الثلاثة تكشف بوضوح عمق الأزمة التي يعاني منها المفهوم، وتؤكد الحاجة إلى إعادة تعريف الثقافة والمثقف على ضوء الكتاب والسنة، حتى يتسنى للمسلمين صناعة نموذج “المثقف المؤمن” الذي يتميز بخمس خصال أساسية استقاها الإمام رحمه الله من الآية الكريمة، قال الله تعالى في سورة الأنفال [2-4]: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. جاعلا بذلك القرآن ميزانا للتمييز بين أصناف الناس، والمحدد لشروط وصفات الإيمان الكامل الذي إن طابقته أفعال المسلم اقترب، وإن خالفته ابتعد.

ولا يعني استحضار الإمام للوحي في تقديم مفهوم الثقافة أنه يشن حربا على هذه الأخيرة، فهي ليست شرا مطلقا، إنما المعركة الحقيقية ضد ثقافة الإلحاد والاستلاب والتذويب التي تنزع عن الإنسان إنسانيته، وتعجز عن معالجة قلقه الوجودي. أما إن باعت نفسها للسلطان فقد أصبحت خطرا يهدد الأمة لا وسيلة لإنهاضها.

2.2- صفات العالم الرباني النموذجي

بعد أن أعاد الإمام في المبحث الأول تعريفًا جديدًا للثقافة والمثقف على ضوء القرآن والسنة، وانكشف لنا تنوع أوضاع المثقفين بين مُلحدين ومتأثرين وثالثين راجعين إلى دينهم، يأتي هذا المبحث ليتناول المواصفات الجوهرية التي يجب أن يتحلى بها العالم الإسلامي النموذجي.

لكي يكون العالم نموذجياً بحق، لا بد أن تتوفر فيه مجموعة من الصفات الجوهرية التي تميّزه عن غيره من العلماء والمثقفين. هذه الصفات بسطها الإمام عبد السلام ياسين في رسالته العلمية وحث أعضاء اللجنة العلمية لجماعة العدل والإحسان على التحلي بها. فعمل العالم المسلم يجب أن يكون من وسط ساحة النقاش والثقافة لا خارجها، وتبليغه لدعوة الإسلام تقتضي منه رفقا وحلما وصبرا ومصابرة وتبشيرا وتيسيرا، لكي تكون دعوته انفتاحا لا انغلاقا، تستهدف الإنسانية جمعاء. عالم يجمع بين العلم بالله والعلوم الكونية ويكون هدفه من الإقناع الكوني إيقاظ الأسئلة الوجودية في الإنسان لا الغطرسة الفكرية. عالم عامل بما يعلم، لا متكلما أجيرا ولا متزلفا للسلطان، يجمع بين العقل والنقل بإرادة تجديدية جهادية تنهضها صحبة موصولة بسند قلبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. خطابه متواضع، يرجو فيه رحمة الله، لأنه مدرك أن الهداية ليست بالكلمات المنمقة ولا الخطابات الرنانة بل قذف إلهي يؤتيه الله من يشاء. عالم واع بما تقتضيه المرحلة، يتعامل بالحسنى مع الجميع، خاصة مع علماء السلطان لأنهم خبيئة جند الله، يستعمل معهم خطابا قويا، إن تطلب الأمر، ليس سبا أو تعصبا، بل خوفا عليهم من أنفسهم. عالم ينظر إلى أفق دعوة الله، يخطط ويبرمج لها ضمن نظام الأخذ بالأسباب، يخاطب الناس بلغتهم، ويغشى جميع قنواتهم، ويتصيد أوقات يقظتهم، ويتسلل إلى قلوبهم بكلمة صادقة خاشعة تلامس الفطرة.

تلك هي معالم العالم المسلم النموذجي كما يرسمها الإمام، عالم يجمع بين العلم والعمل، بين الرحمة القلبية والحكمة العقلية، وبين الرفق في الدعوة والحزم في الحق، ليكون لبنة صالحة في بناء صرح الخلافة الثانية على منهاج النبوة.

خاتمة

بعد هذا العرض التحليلي لأزمة العلم في واقعنا الإسلامي، كما بسطها الإمام عبد السلام ياسين في رسالته العلمية، يتبيّن أنه لا يدعو إلى الاصطدام مع المتغربين، بل إلى فهمهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، حتى يتسرب نور الهداية إلى قلوبهم. كما أنه لا يرفض قيم الانفتاح والتقدم والعولمة، لكنه لا يبرر سيادة هذه القيم على حساب إقصاء المرجعية الإسلامية.

يمكننا أيضًا أن نستخلص أن الإمام لا يدعو إلى التشنج تجاه المغربين من بني جلدتنا، بل إلى إقناعهم بأن الحرية الفكرية لا تعني قبول الباطل، بل البحث عن الحقيقة. ولا يدعو إلى الإساءة إلى أصحاب الفقه المنحبس، بل يذكّرهم بأن الكمال الإلهي لا يبرر التحجر العقلي، ولا يغلق باب الاجتهاد أمام العقل المؤمن، بل يوجّهه ويرشده. وهكذا يدعو الإمام رحمه لله إلى سد الفجاج وتقريب الفجوات ليلتئم صف المسلمين ولتحيا الإنسانية على منهاج النبوة.


[1] الرسالة العلمية، عبد السلام ياسين، المغرب، الطبعة الثانية الصادرة عن دار إقدام للطباعة والنشر، سنة 1444هـ/2022م، ص22.