رويدك أيها الأخ الكريم! لا تقلب الصفحة دون مطالعتها، أتقاطعني وأنا لما أبدأ كلامي؟!
نعم أيها اللبيب الفطن، سؤال معروف دارج على لسان أهل الله تعالى المهمومين بآخرتهم، المنشغلين أيضا طاعة له جل وعلا بهداية خلقه حبا وإشفاقا. لكن هل سألت نفسك أنت؟ أنت، أنت! هل وقفت يوما عن السعي في ساحة الدنيا ومعافسة أهلها وتساءلت: ماذا أفعل على هذه البسيطة؟ هل راجعت حسابك، وتصفحت ماضيك، ثم نظرت في حاضرك، وتساءلت: أين أذهب يا رب؟ هل ألححت في السؤال؟ هل غمّك؟ هل همّك؟ أم تراك اكتفيت بجواب المسلم “الجغرافي”؟ إن لم تقف، إذ لا طمع في جلوسك إنما يجلس الرجال، فتوقف! أكره نفسك على الوقوف. كن “رجلا” مرة واحدة في حياتك، وضيق على الأمارة بالسوء التي بين جنبيك، أغلق عليها منافذ العادة والتقليد ومسارب الأجوبة الجاهزة، ثم اسألها… لعلك لا تستطيع أن تتوقف!
بالأمس فقط مات جارك، وقبل أسبوع توفي قريبك وهو في ريعان الشباب، وكل يوم، بل مع كل نفس يرحل من يرحل عن دنياك وأنت تصبح وتمسي وهمك الأرض، لا تكف عن الجري فيها بلا كلل، طامعا فيما هو أشبه بالسراب، متجاهلا في إصرار غريب السؤال الذي يلح عليك كلما تقدم بك العمر: ماذا بعد الرحيل؟!
تعرف الجواب؟ الله أكبر! إن كنت تعرف الجواب، فأنت بصدق خير من الجنيد والإمام عبد القادر بالنظر إلى عصرك الفاتن المفتون. ومثلك لا كلام معه لأنه من العارفين الواصلين، وفقني الله وكل من لديه حاجة عنده تعالى إلى التتلمذ لهم والقبس من أنوارهم.
قلت في ثقة وإجلال: أنا في حمى الجماعة المباركة، وهي تعرف الجواب، وتعرف كيف. أقول لك بصراحة راجيا ألا تنزعج من كلامي: هذا جواب السذج. الجماعة، وهي مباركة، لن تنفعك بشيء، والعبد إنما يمثل أمام خالقه وفاطره سبحانه وحيدا بلا رفيق، حافيا بلا شفيق، ولسوف تسأل أنت، ولن تسأل الجماعة!!
على أنه لا بد من الجماعة، لا بد؛ فبدون صحبة، بدون عروة تشدك إلى السلسلة النورانية الممتدة إلى معلم الوحي المصحوب الأول أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وبدون عمل جماعي منظم وفق منهاجه وسنته لإقامة العدل رأس المطالب ومقدمة الإحسان، لا وصول، لا وصول، لا وصول!
لكن دعني أسألك: هل أنت فعلا عضو في الجماعة؟ هل تحضر لقاءاتها، ومتى، وكيف؟ وما الذي تحضره؟ لا تهرب، أعرف الجواب، وهو واضح فاضح سترني الله وإياك. لكن ذاك مضى وفات، الآن ارفع رأسك وأجب: متى ستبدأ الحضور؟ بل متى ستنخرط في الجماعة؟ هل تنتظر أن يأتيك الإخوة فيمسكونك ويكبلونك ويذهبون بك إلى ما تهرب منه؟ والله ثم والله ليتهم يفعلون! لعلك تقولها في خويصة نفسك ضاحكا راجيا رحمة ربك، أو منكسرا خائفا من عقابه. كيفما قلته فهو خير، غير أنه مع الأسف لن يفعل إخوانك هذا أبدا. هكذا كان في زمن البعثة النبوية، وفي الأزمنة التالية، وهكذا سيبقى.
آه، تحضر تقريبا كل لقاء تدعى إليه. هذا خير وبشارة خير، فتشبث به. لكن ما موقعك أنت فيما تحضر؟ وما الذي تأخذه أنت؟ وما الذي يعقب إخباتك وتضرعك في مجلس إخوتك، ويعقب تبسمك في وجوههم ومعانقتهم حين الوداع؟ أم تراك من أصحاب الوجهين: وجه داخل الجماعة، ووجه خارجها؟ معاذ الله من النفاق، لكن بيني وبينك، احضر ولا تقطع الحبل، فرحمة الله وسعت كل شيء، وإنما ينفرد بالقاصية من الغنم من تعلم.
تعلق أيها الأخ الفاضل الغيور بلهجة منقبضة: هذا سؤال في غير وقته وعصره، وهو من المزالق؛ المرحلة الحالية تدعو للمزيد من الضغط الميداني والعمل السياسي لإسقاط نظام الاستبداد الذي أضحى يهجم علينا بأساليب شرسة غير مسبوقة يوشك أن يسحقنا، وعندئذ لن تقوم لنا قائمة، وسلام على دولة الإسلام؛ يجب النظر في الوقت الحاضر إلى مستقبل الجماعة، ومساءلة طرق ووسائل عملها الكفيلة بكسر الحصار الخانق المضروب عليها، عوضا عن الانزواء والانطواء، والاقتداء بغلاة المتصوفة.
أقول لك أيها الأخ الكريم: إن قلت ما قلت وأنت حديث العهد بالجماعة لا تعرف كوعها من بوعها، أو لك ثلاث سنوات أو أربع قضيتها في “النقد” والملاحظة أو خدمة الإخوان بلا قلب، لا تحضر سوى المسيرات والخرجات والزيارات الإرشادية، فأنت معذور. أما إن كان هذا رأيك وأنت عضو معروف أو مجروف في الجماعة منذ عشرين سنة أو أكثر، لك باع في “الدعوة” ومناجزة أهل الباطل، فادع الله أن يمنحك قلبا، فإنه لا قلب لك. واعلم، كائنا من تكون أيها الأخ الحبيب، أنك أنت، لا أحد غيرك، أفتك معول في هدم مستقبل الجماعة، وأنه لا حصار ولا جدار سوى في خيالك العليل، فليس للظلمة مهما اشتد سوادها لمحاصرة النور من سبيل…
مستقبل الجماعة يا هذا هو أنت. مستقبل الجماعة العاملة بطرق ووسائل المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم، يا من تحاصر نفسك بالأوهام ومزاعم الطغام وترهات شياطين الإعلام، رهين باستقامتك، وأول شروطها الصحبة والجماعة، ثم الذكر، ثم الصدق. بدون هذه الأصول الثوابت، بدون هذه البذور، يكون سعيك لتقويض أركان الاستبداد فإقامة دولة الإسلام كالحرث على الرمل، لا يرجى منه ثمرة. وإن دولة لا يسكن قلوب الطليعة المتصدرة للحكم فيها الاهتمام بالآخرة والمعاد، ولا يتقدم مجالسها ولقاءاتها وبرامجها القرآن العظيم والذكر بفروعه وآدابه، ومنه ذكر الرحلة والمصير وتعلق الهمة بالخالق البصير، دولة خراب، مآلها مثل مآل سابقتها: الزوال والدفن في التراب.
أراك تنهي القراءة معتبرا أنك تجاوزت هذه المرحلة، تعرف ما تريد، وتعمل له بوعي وروح وانضباط ومسؤولية، قائلا في سرك من علياء مسؤوليتك التي بوءتك إياها خطابتك، أو شطارتك، أو صدقك في الطلب، أو ربما رحمة الإخوان بك أن كنت متعطشا للقيادة والوجاهة فداروك، وصانعوا شيطانك، ودفعوك إلى المنصة محسنين برجولتك الظن: كلام جميل يصلح لنقباء الشعب، أو للجهة الفلانية التي خبا بريقها. والله لئن حدثتك نفسك بهذا ولم تستغفر لإنك أحوج من سائر الإخوة لأن تجلس في حضن أسرة الحي لتتعلم قواعد السلوك وأبجديات الأدب، وليكن أعضاؤها من المساكين الذين لا يقرؤون ولا يكتبون. واعلم يا أخي في الله والجماعة أن الأفعوان الذي يقيم في داخلك قد ضخم وعظم يوشك أن يجهز عليك. فنقب، إنك نقيب، عما يتغذى عليه في باطنك، ويسمنه في سرك، فإنه قد لا يعلم ذلك غيرك. تب إلى الله، وابك على نفسك منفردا في جوف الليل، واعتبر بمن سبقوك، فكم من عضو بارز انكسر وفتر، وكم من قيادي ذي سابقة لفظته نفسه إلى عوالم تنظيمية أخرى، أو ابتلعته الدنيا كما تبتلع الحرباء الفراش الطائر، أو صار له عن الجماعة كلام مثل كلام الذي لم يذق يوما عسل القرب من خالقه، بل مثل كلام الذي ينابذ الجماعة بلا مقدمات. نسأل الله العافية!
قال أبو محمد الجريري: “كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: “أرفق بنفسك!” فقال: “ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هو ذا تطوى صحيفتي؟”.
ودخل المزني على الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليهما في مرضه الذي توفي فيه فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله تعالى واردا، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها؟
الشافعي!
هذا وإني والله لأحوجكم لأن أتوقف وأبكي على نفسي سائلا: أين أذهب يا رب؟!