تسرح جدتي في خيالها بينما أعد إبريق القهوة لنحتسيها معا، إلى جانب طبق الشعرية الساخن الذي تُعده بمهارة فلا يجاريها فيه أحد، اقتربت منها ووضعت الصينية المستديرة ورائحة القهوة تفوح منها بقوة، صببت كوبين وناولت جدتي واحدا، وكسرت جدار الصمت بسؤالي: فيما سرح خيالك يا حبيبتي لالة فطومة؟
توجهت إلي بأنظارها مع ابتسامة تزين ثغرها وعينين حالمتين وأجابت: تذكرت يا ابنتي أيام كنتُ شابة جميلة مثلك، وعادت بيَ الذاكرة إلى الوراء حين كانت لمات الأهل والأحباب والجيران محور تكوين مجتمعاتنا، وديدانا يسير حياتنا اليومية ويُيسر قضاء حاجاتها، وجزءا لا يتجزأ من ثقافتنا الشعبية وخصوصا في رمضان. فمثلا في وجبتي السحور والفطور لابد أن نجتمع على مائدة الأكل، لا يتغيب منا أحد حتى من لم يصم لمرض مزمن أو لحداثة سن، لأن اجتماعنا حول المائدة ليس بغرض الأكل فقط، بل هو أعمق من ذلك، فهو اجتماع أرواح وتواصلها، وتآلف أجسادٍ وتقاربها، وتعاون نفوسٍ وترابطها، فتلك المستملحات التي يُلقيها الكبار للصغار، وتلك الضحكات التي يُطلقها الصغار بعد سماع النكتة تبقى محفورة في شغاف القلب رغم بساطتها، بل لأنها بسيطة وعفوية تكون بلسما يُطيب جوهر الفؤاد، وودادا يُقوي رابطة المحبة بيننا، فينهانا بعد ذلك في حياتنا عن الإساءة لأنفسنا وللآخرين تكريما لذلك الأصل وعرفانا لتلك اللمة الزكية التي تربينا دون أن تتكلم. ناهيك عن كون تجمعنا على المائدة فرصة لإصدار القرارات، ومناقشة المواضيع والظواهر المستجدة، وتوزيع المهام، فيكون كل فرد بعدها عالِما بأحوال البيت مدركا لتوجهاته، حاملا لمسؤولية نفسه وعائلته، متهمما بإنجاحها وتحقيق منفعتها. ثم إن فرحتنا بتحصيل أحدنا مقعدا دراسيا أو وظيفيا تكون فرحة مشتركة، يُعبر فيها كلٌ منا بأسلوبه عن سعادتنا بما وصل إليه كما نشجعه على المضي قدما، ونحتضن حزن أحدنا في المصيبة بالمواساة والتخفيف ولا نتخلى عن دعمه حتى يُعاود النهوض على قدميه.
قلت: ولكن يا جدتي ما سبب اندثار أشياء جميلة كهذه من واقعنا الآن، هل للهواتف والتكنولوجيا يد في تفكيكنا؟
فأجابتني: أعتقد جازمة يا ابنتي أننا المسؤولون الرئيسيون عما وقع لنا، والتكنولوجيا لا تعدو كونها القشة التي قسمت ظهر البعير، فكانت القلوب مستعدة للجفاء والهجران، لإصابتها بالتكلف والغلو وتسلل العنف والسلطوية للبيوت وبُعدها عن البساطة والبشاشة والرفق، ودخول المقارنة السلبية والحسد في الوسط، والتعصب للرأي والأنانية، والجشع وحب الدنيا.. كلها صفات تقضي على اللمة الجميلة والجُمْعة المباركة، وتُفضي إلى التفرُّق والشتات، فأدعو الله عز وجل يا ابنتي أن يجمع شتاتنا وهمومنا عليه. ثم استطردت جدتي الحنون: كُلي كُلي يا ابنتي قبل أن يبرد الأكل.
أمسكت الملعقة وأنا أتـأمل كلام جدتي النفيس، وأدعو الله أن يجمعنا مع اللمة الدائمة على ذكره، الموصلة إلى رضوانه، والممتدة في الدنيا والآخرة، ثم بدأت في التهام طبق الشعرية الشهي في سعادة لا توصف.