اسمي زكريا..
أحمل هذا الاسم بسبب خطأ في الكشف الطبي. قال الطبيب لأبي بأن الجنين بنت.. خاطت أمي ملابسا لي قبل ولادتي، كانت ملابس فتيات بخيوط وردية اللون، حتى غرفتي حرص أبي على صباغتها باللون الوردي.. فرحت جدتي لأنها مقتنعة بأن ولادة البنت الأولى تجلب الرزق، يضحك جدي مصححا، بل تجلب البركة..
عند ولادتي ذات مساء شتائي بارد، تعجب الجميع بأني ذكر.. لم يكن أبي حاضرا..
حين سمع الخبر المفرح الغريب عبر الهاتف، دخل المسجد ليصلي العشاء.. قرأ الامام سورة مريم.. كاف هاء ياء عين صاد. ذكر رحمة ربك عبده زكريا.. قراءة ورش تهمل الهمزة.. والإمام تفنن بصوته الشجي في تلاوتها.. حين تكرر الاسم في الركعة الثانية، وقع في قلب أبي فأدرك بيقين تام أن الله اختار لي هذا الاسم..
رفض موظف الحالة المدنية كتابة الاسم بدون همزة، قال له أبي هكذا سمعته من عند الله.. أصر الموظف على قراره حتى تدخل أحد المعارف وفي يده وثيقة تؤكد أن زكرياء مثل (السما) و(الما) و(العلما) يجوز إهمال الهمزة في كتابتها.. أهدى أبي للموظف كتاب (الشفا) للقاضي عياض، فكتب الاسم بدون همزة ثم حضر عقيقتي..
يضحك أبي دائما وهو يخبرني:
كنت سأسميك “كاف هاء ياء عين صاد” لو لم يكمل الإمام قراءته.. شهران والعائلة تقترح عشرات الأسماء قبل أن تحسم أمك الموقف كعادتها وتختار اسم مريم، لكن يأبى الله أن تولد بنتا..
يضحك ملء شدقيه ويضيف (اختار الله لك اسما من سورة مريم جابرا خاطر أمك..)
لم يكن أبي يعلم أن سيدتنا مريم كفلها سيدنا زكريا.. وكلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا..
كاف هاء ياء عين صاد..
هكذا تبتدئ سورة مريم.. منذ صغري وأنا أخفي سرا كبيرا عن الجميع، فعلاقتي بالحروف غريبة.. تأتيني في الأحلام على شكل رؤى عجيبة.. كلما استيقظت من حلم تراكمت هذه الحروف فوق سريري. لم أكن أكترثُ في البداية، لكنها مع مرور الوقت صرت أخفيها في الدولاب وتحت السجاد وخلف الستائر… عندما كبرت صارت الحروف تتكاثر من حولي وتتراكم في غرفتي حتى أصبحت أتعثر بها من وإلى المطبخ.. ذات مرة، تعثرت بحرف الراء وأنا أحمل صينية الشاي، سقطت أرضا وانسكب الشاي على ملابسي وانكسرت الكؤوس مشتتة على أرض غرفتي.. وقفت حانقا لأجد نفسي داخل حرف الدال..
أصعب ما في الأمر هو قرار رمي هذهِ الحروف الفائضة عن الحاجة في أكياس أو عبر النافذة حين يخلو الشارع..
ثم حدث ما غير حياتي، بدأت أتعلم الأسماء كلها عبر تشكيل هذه الحروف، فرأيت بلدانا ولقيت أناسا وصحبت أولياء وعشت مغامرات عديدة مديدة..
كنت أتأمل قدرة الله الذي خلق الحروف وجعلها رموزا وإشارات وخطوطا تحتوي داخلها على الكون الأكبر، وتملك القدرة وهي تمشي على الأوراق أن تعبر عن ملايين الصور والأحلام والدهشة والاكتشاف..
في أول الأمر، ظننت أن الجميع يرون ما أرى لكنني سرعان ما أدركت أنهم لم يروا..
وفي صحبة القرآن، كشف الله لي أسرار كل حرف وفتح لي أبوابه وأعانني على سبر أغواره وأطواره..
ومع كل حرف قرآني كانت تتسع السماء فوقي كأنها تحتضن الأرض مثل وليد صغير..
اندهشت لحرف النون في سورة القلم وكيف أقسم الله بحرف وقلم وسطر من الكلمات، وعندما كبرت اندهشت أكثر للنقطة الوحيدة فوق حرف النون، النقطة اليتيمة التي تبدأ عندها حسرات المحبين وتنتهي إليها آمال العاشقين..
ثم جاء الفتح الأكبر حين أدركت أن أكبر الكلمات وأجملها وأروعها وأدفأها وأوسعها هي كلمة لا إله إلا الله..
قال رسول الله ﷺ لأصحابه: «جددوا إيمانكم!» قيل: يا رسول الله! وكيف نجدد إيماننا؟ قال: «أكثروا من قول لا إله إلا الله».
اسمي زكريا..
أحمل هذا الاسم بحروف قرآنية، وقد قررت أخيرا أن أقايض الكتاب والمؤلفين والشعراء بكل الحروف الباقية: خبزًا وفاكهة وأباً..