كل الخصال في ركعة!

Cover Image for كل الخصال في ركعة!
نشر بتاريخ

ما أعظم أن يضع المرء ناصيته راغما وطواعية لرب الكائنات، يستحضر ضعفه رغم شكيمته، وفاقته رغم غناه، وحاجته رغم هناه، وذله رغم عزه، كما يستحضر عظمة الله وجبروته ورحمته وعنايته..

الصلاة صلة تصل العبد بربه، كيف لا وقد وجبت حين كان الوصل المباشر ليلة المعراج؟! إنها تضع عن العبد أوزاره وأدرانه، تفتح ما أوصِد دونه من أبواب، ترفع قدره بقدر التصاق جبينه بأرض السجاد؛ يبتغي بذلك رفعة المقام وعزة المرام ونيل وطر الدنيا وفردوس الآخرة.

إنها تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ وهي بذلك ضابط الأخلاق العامة والخاصة، وكانت على المومنين كتابا موقوتا، فتُحكِم المواقيت والمواعيد والليل والنهار والعمل والعطل. قد تؤدى جماعة وهي الأكرم في مقام الجماعة، أو خبيئةً في مقام آخر.

هي عماد الدين وقطب رحاه، فبديهي أن تنجمع فيها خصاله، فكيف نفقه الصلاة على مقياس الخصال العشر؟ هل يمكن أن تتجلى الخصال كاملة؛ صحبة وجماعة، ذكرا، صدقا، بذلا، علما، عملا، سمتا حسنا، تُؤدة، اقتصادا، وجهادا في ركعة لله؟ هذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه.

1- الصلاة والصحبة والجماعة: يصحب المصلي إماما يؤمه، وجماعة تحفه وتُشعره دفء وحلاوة الخشوع، تأخذ بيده إلى الملكوت إن حضر القلب واستحضر آفاته وحاجاته بين يدي العزيز الجبار، فعن عبد الله بن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة” (البخاري، 650) (1).

2- الصلاة والذكر: وهل الصلاة إلا ذكر؛ من وضوئها ونية إقامتها إلى تسليمها والخروج منها، فيها تكبير وحمدلة وتعظيم يتخللها القرآن والدعاء، يفصل شعائرها تسبيح بحمد الله وعلوية قدره، فما الصلاة إلا تجرد من كل شيء إلا من ذكر الله؟!

3- الصلاة والصدق: فلا يقوم إليها إلا محتاج صادق، ولا يقيمها إلا مفتقر خضع قلبه قبل أن تخضع جوارحه، وإن لم يدعُ صادقا فلا شكرانَ لسعيه حتى يصدق، والشهادة بالإيمان عند الله لمن يرتاد المساجد لا يضيعُها عاقل، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ” (2). الصلاة في المساجد دليل إيمان!

4- الصلاة والبذل: ولنكن من الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة، يَخلُفِ الله البيع إن وهبتَ وبذلت وقته وما يُجنى منه في سبيل الله، يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (الجمعة، 9)؛ ربِح البيع ورب  الكائنات.

5- الصلاة والعلم: كيف يُعبد الخالق عن جهل؟! لا يقبل الله عزّ وجل إلا ما كان صوابا مخلصا، والصوابُ العلمُ بالكيف والمعنى والشكل والجوهر، والعلم بالفاتحة وما تيسر من كتاب الله عز وجل، والعلم بالشعائر؛ من نية الدخول إلى حضرة القدس ثم الركوع والسجود والرفع والقيام والجلوس وختما بالتسليم. 

6- الصلاة والعمل: هي العمل الذي يتقرب به العبد إلى مولاه بعد العلم به والتفقه فيه، تُبنى عليه باقي الأعمال والقربات، “صلوا كما رأيتموني أصلي” (3) هكذا كان أمر رسول الله بالعمل أمرا ظاهرا صريحا بالاتباع والتأسي التام بحركاته وسكناته، وخشوعه وخضوعه صلى الله عليه وسلم في صلاته.

7- الصلاة والتؤدة: من التؤدة التأني في الخطى إلى المساجد والصبر والسكينة والتروي، التؤدة الأخذ بيد الضعيف في المسجد والإمامة، والصبر على الجماعة في الصفوف، والاقتداء بالضعيف والحامل والمرضعة في الصلاة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ” (4).

8- الصلاة والسمت الحسن: لم يُؤمر بأخذ الزينة إلا عند كل مسجد، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (سورة الأعراف، من الآية 31)، فتُستَر العورات وتُنَزه الثياب والأبدان عن كل نجاسة ودنس، وهذا ركن ركين لصحة الصلاة.

9- الصلاة والاقتصاد: ومن معاني الاقتصاد القصدُ أي التوجه والسير إلى الله، هروبا وخوفا من الاغترار بالدنيا للوصول بأقل تكلفة، وهو ما دل عليه الرسول الأعظم بقوله: “أعِني على نفسك بكثرة السجود” (5). والقصد في الصلاة الحضور، فلا يقبل منها إلا ما حضر فيه خاشعا خاضعا مقبلا غير لاه، والقصد إخلاص النية. وقد روى ابن ماجة رحمه الله مرفوعا: “من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائرين إليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ إلا أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك”. ومن ذا الذي لا يرتجي إقبال الملك الوهاب عليه بوجهه الكريم.

كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *  وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الذاريات، 18-17) تقلل من النوم وزهد في راحة الشبح لراحة الروح. لا إله إلا الله.

10- الصلاة والجهاد: الصلاة الدعوةُ إليها والصبر على تاركها وتعهده حتى يعتادها عادةً فتصبحَ عبادة، ومن فقه وبداهة الإمام الغزالي جوابه حين سئل عن حكم تارك الصلاة، أنه أجاب بوجوب اصطحابه إلى المساجد.

ملخص القول ما قاله الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، في كلمة مانعة من تحفته المنهاج النبوي: “الصلاة لوقتها وفي المسجد مع الجماعة هي الضابط للمسلم، إذ تنقله من الوقت السائب، المقيد بعلاقات العمل والراحة والطعام واللهو، إلى الوقت الإيماني، المقيد بداعي الله خمس مرات في اليوم ومرة في الجمعة. تنقله من المكان السائب المنطلق في ساحة الغفلات، إلى بيت الله يلبي النداء رمزا للطاعة والانقياد. تنقله من الوحدة السائبة، وضياع الرفقة الغافلة، إلى صف المصلين المتراصين بين يد الله” (6).


(1) عبد السلام ياسين، شعب  الإيمان، ط 2017/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 141، رقم الحديث:  425.

(2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) رواه الترمذي (2617)، وأحمد في مسنده (27325).

(3) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي))؛ رواه البخاري.

(4) عبد السلام ياسين، شعب  الإيمان، مصدر سابق، ص 144.

(5) عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله ﷺ قال: كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود. رواه مسلم.

(6) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/2، الشركة العربية للنشر والتوزيع – القاهرة، ص 160.