كلمة الأمين العام لجماعة العدل والإحسان.. الدلالات والأبعاد

Cover Image for كلمة الأمين العام لجماعة العدل والإحسان.. الدلالات والأبعاد
نشر بتاريخ

بمناسبة اليوم العالمي لنصرة غزة، وتزامنا مع إصدار الهيئة العلمية “نداءها إلى علماء المغرب”؛ في سياق مشحون بالآلام والأحزان والعجز، بسبب نداء المظلومين المحاصرين المجوعين المستضعفين، واستمرار سياسة العدوان الصهيوني وأعوانه بغزة؛ تقتيلا وإبادة وتجويعا، وصمت الأنظمة الرسمية العربية؛ بل تواطؤها وتطبيعها، وأمام عجز الشارع العربي ــــ رغم الحراك الشعبي التضامني المحتشم هنا وهناك؛ إذ لم يرق بعد إلى مستوى حراك الشعوب بالعواصم الغربية، والتي باتت تشكل ردعا وضغطا على أنظمتها لتغير من سياساتها تجاه قضايا فلسطين ــــ في ظل هذا السياق، وجه العالم الرباني الجليل محمد عبادي كلمة إلى الأمة بعلمائها وحكامها وشعوبها؛ أولا باعتباره عالما من علماء الأمة؛ ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، وثانيا باعتباره أمينا عاما لجماعة العدل والإحسان المغربية؛ الملاذ الأمل الآمن؛ الأخلاقي والسياسي والاجتماعي؛ للمستضعفين.

جاءت هذه الكلمة؛ المُعنونة؛ حسب موقع الجماعة؛ ب”الأعداء لا يصدّهم عن ظلمهم إلا قوةٌ رادعة، وأهل غزة لن ينقذهم من الحصار إلا هبّةُ الأمة”، استنهاضا للهمم، وتبكيتا 1 ومحاسبة للذات على تقصيرها، ثم لتنبه الأمة إلى خطورة ما آلت إليه الأوضاع الإنسانية بغزة، ولتتحمّل كل جهة مسؤولياتها التاريخية والأخلاقية، ولتعزز موقف المقاومة وحقها في الدفاع عن النفس، ثم حقها على الأمة في النصرة والوقوف إلى جانبها، مستلهمة هذا الحق من نصوص الشرع وما تكفله التشريعات الدولية.

خلال هذه القراءة سنقف بتركيز على دلالات العنوان والأفعال، ثم الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والروحية، ثم نخلص إلى أهمية الكلمة باعتبارها أنموذجا في إنماء الوعي السياسي والدعوي الملتزم بالدفاع عن قضايا الأمة، والذي لا يكتفي بدغدغة المشاعر وتحريكها؛ بل يشخص ثم يقترح على الفاعل الشعبي والعلمي معًا البدائلَ وبعضَ آليات الفعل والتأثير.

بخصوص عنوان الكلمة “الأعداء لا يصدّهم عن ظلمهم إلا قوةٌ رادعة، وأهل غزة لن ينقذهم من الحصار إلا هبّةُ الأمة”، فلقد كان مركزا وقاصدا؛ وكان صاحبه موفقا إلى حد بعيد في سبكه، إذ نقل الخطاب من بؤرة التوسل والاستجداء والعواطف والتعاطف إلى منطق الفعل الذي لا تتحمل مسؤوليته غزة فقط، بل الأمة كلها، وهو موقف مقاوم؛ سِمته الأساسية اللاعنف؛ يُحسب للجماعة، ليس من خلال هذه الكلمة فقط، بل يعتبر من المبادئ المرسخة في تربية منتسبيها (تربية وتنظيما وزحفا).

ودون الدخول في التفاصيل، لقد تضمن العنوان ذو البعدين المتقابلين (الظلم في مقابل القوة الرادعة) و (الحصار في مقابل هبة الأمة)؛ دلالات بلاغية توحي بالحزم والقوة والحشد الجماهيري المستمر في الزمان والمتجدد؛ فكان (الغعل المضارع: يصدّهم، ينقذهم) الفعل المناسب للسياق.

والمقابلات؛ في هذا السياق؛ توحي بالتباين الشديد بين طرفين متناقضين ومتباينين من حيث القوة والردع، تزيد الإحساس بالظلم، وقلة الحيلة أمام ما يتطلبه الواجب المحصور قصرا على الأمة (إلا قوةٌ رادعة، إلا هبّةُ الأمة)، والقصر هنا حقيقي وليس إضافي، وظيفته: تقوية المعنى وإثارة الانتباه وإبراز التضاد الذي تمت الإشارة إليه 2، ويتضمن العنوان كذلك جملة من المعاني السياسية والأخلاقية والاستراتيجية في تركيب قصير ومركز جدا؛ فيكون بذلك خلاصة مركزة لكل مضامين الكلمة، وما عداه تفاصيل وبيان له.

وبالانتقال إلى متن الكلمة؛ نجد أن صاحبها العالم الرباني والفقيه والسياسي يستعمل مجموعة من الدلالات اللغوية والبلاغية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والإنسانية؛ دعاء ودعوة وتحفيزا وتقريعا وتوبيخا لمن يهمهم أمر غزة وأهلها، فعند موقف التحفيز والتعبئة واستنهاض الهمم، يستدعي أفعال القوة (اصبروا، رابطوا، اصمدوا، تحرروا، انفروا …)؛ المستوحات من آيات الجهاد والمواقف الجهادية، لكنه في مواقف الاستكانة والافتقار  واللجوء إلى الله عز وجل، يستدعي أفعال وصيغ الدعاء والتوكل (اللهم نصرك المبين، اللهم فرج، نسألك النصر، كن وليا ونصيرا..)، ولعل هذه الثلاثية ( القوة والدعاء والتوكل) هي ما يبث الأمل والشعور بالطمأنينة في موعود الله بالنصر، رغم الغطرسة الصهيونية وتخاذل الأقربين.

هؤلاء المتخاذلون والمتواطئون كانوا أهلا للتوبيخ والتقريع واللوم، وكل أساليب الإنكار، لإثارة ضمائرهم وتحطيم حالة التطبيع العاطفي مع المأساة في غزة لديهم، فاستدعى لذلك هذه الصيغ البليغة النافذة (كيف تستلذون الطعام؟ ألا تخافون؟..)، واستعمال اسم الاستفهام “كيف” في هذا السياق يدل على التفخيم؛ تفخيم وضعية “الاستلذاذ” بالطعام أمام جوع أهل غزة، أما (ألا)؛ فتستعمل عادة في مقام “يفرض أن يكون المستفهم في موقع اجتماعي أو إداري أو سياسي عال قياسا إلى موضع المخاطب، وأن يتوفر في ذاكرتيهما المشتركة جملة من الأحداث أو الرّغبات التي يمكن طلب تحقيقها من طريق الاستفهام” 3

أما باقي أبعاد كلمة الأمين العام فنلخصها كالآتي: البُعد السياسي: ويتمثل في فضح الخذلان الرسمي؛ فحسب الكلمة؛ تتحمل الأنظمة مسؤولية مباشرة في استمرار المأساة، عبر التطبيع وقمع المظاهرات المساندة، ثم عدم قيام الجيوش بمهامها من قوله: “لأي عدوٍ تُعدّون آلاف الجيوش؟ وتقتنون أصنافا شتى من الأسلحة؟ تُنفقون عليها من أموال الأمة ما يكفي لعيشه الكريم، هل هناك عدو يهدد وجودكم أخطر من العدو الصهيوني؟”، وهذا ما جعله يعتبر الأمة رصيد المقاومة الأخير، وأنها ليست “بمنأى عمّا يُلاقيه (إخوانهم) في غزة من أصناف الهوان والعذاب”، وبالتالي عليها أن تستفيد من شعوب العالم التي تحررت من أنظمتها، أما البعد الاقتصادي فتجلى في دعوته إلى توظيفه كسلاح للضغط والمواجهة؛ حيث قال: “فالسلاح الاقتصادي أصبح أقوى سلاح.”

ولم يفته نقد التطبيع بكل أشكاله، والتحذير من التغلغل الصهيوني ثقافيًا وفنيًا، وهذا يستدعي في نظره تحصينا ثقافيا وأخلاقيا داخليين، ويفرض قيام العلماء بمسؤولياتهم فالعلم “الذي لا يثمر خشية ولا مواقف شجاعة ليس علماً نافعاً”.

وخلاصة القول؛ فإن كلمة الأمين العام كانت عالية السقف لأن رمزيته القيادية الطلائعية، وهوية الجماعة وموقعها المعارض، وانتظارات الشارع الذي مل الخطابات الرسمية المقيدة والمُقَيِّدة؛ أعطى هامشا كبيرا من الحرية في الخطاب، وأرى أن هذا السقف العالي سيساهم في تحرير إرادات الكثير من العلماء ممن رهنوا أنفسهم إما خوفا على منصب، أو خوفا من ذي سلطان، خاصة في ظل التحرك الميداني لعلماء الجماعة بنفس السقف والنفَس.


[1] التبكيت في اللغة هو التوبيخ والتعنيف والتقريع، وفي الاصطلاح هو الغلبة بالحُجَّة، والإلزام، والإسكات.
[2] وأقوى صيغ الحصر النفي والإثبات نحو لا إله إلا الله فالأصوليين يقولون منطوقها نفي الألوهية عن غيره- جل وعلا- ومفهومها إثباتها له وحده –جل وعلا-والبيانيون يعكسون، ص362 – أرشيف ملتقى أهل الحديث – عجالة منتقى النقول على مرتقى الوصول الحلقة الرابعة – المكتبة الشاملة الحديثة الرابط:https://al-maktaba.org/book/31616/54864#p6
[3] محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب، علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس – لبنان، الطبعة: الأولى/2003 م، ص: 296.