جاء في كتاب ”لطائف المعارف” لابن رجب: ”باع قوم جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان. فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟ لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم”.
وعطف الكاتب على هذه القصة قصة شبيهة لها فقال: ”وباع الحسن بن صالح جارية له، فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل الدار، الصلاة الصلاة ! قالوا أطلع الفجر؟ قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟ ثم جاءت إلى الحسن فقالت: بعتني إلى قوم سوء لا يصلون إلا الفرائض. ردني ردني” (1).
تفرض القصتان، على قصرهما، وقفة متأنية متدبرة للمعاني العميقة التي تجليانها، والمواقف الراسخة الثابتة التي تجسدانها. فقد حملتا في ثناياهما إشارات عظيمة جليلة يمكن حصرها كالآتي:
– التربية الإيمانية ودور الصحبة فيها: (كنت عند قوم…)
– العبادة بين مرتبتي الإسلام والإحسان:
· الإسلام: (وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟ ــ وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟).
· الإحسان: (كان كل زمانهم رمضان ـــ قيام الجارية الثانية في منتصف الليل للصلاة).
– المرأة وطلب المراتب.
1- التربية الإيمانية ودور الصحبة فيها
التربية الإيمانية هي تربية شاملة ومتوازنة، لا تقف بالمرء عند الفهم السطحي لدين الله عز وجل وتعاليمه، بل تغوص في الأعماق لتقتلع الخاطئ الهجين الدخيل، وتثبت الصحيح القويم، وتزيد ما به يرتقي العبد في مدارج الإسلام فالإيمان ثم الإحسان.
هي تربية، كما يعرفها الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، ”لا تقصر بالمؤمن عن درجة المجاهدين، ولا تجعله من غثاء الحركية الجوفاء الخالية من لب الإحسان” (2).
وأولى ركائز هذه التربية الإيمانية صحبة دالة على الله في حياة كل إنسان، لا غنى له عنها إن هو أراد الارتقاء في مدارج الدين، والتتلمذ على يد أطباء القلوب الخبراء العالمين به مصداقا لقوله تعالى: ٱلرَّحۡمَٰنُ فَاسۡأٔل بِهِۦ خَبِيرٗا (الفرقان، الآية 59).
صحبة يتشرب منها معاني السلوك إلى الله، والفهم عنه جل وعلا وعن حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم وعن كل أنبيائه ورسله وأصفيائه.
صحبة تفتح البصيرة لتلقي العلم الذي يوصل إلى الله، علم لا يقف عند صلاة الفرض وصيام الشهر، بل يتسع ليجعل الزمان كله رمضان، وكل الأوقات صلاة ودعاء وذكرا.
صحبة حث عليها الله عز وجل في قوله تعالى: وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا (الكهف، الآية 28).
وحث عليها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” (3).
تتجسد هذه التربية الإيمانية بركيزتها الأساس “الصحبة” في قصة الجاريتين اللتين ذاقتا هذه المعاني بكينونتهما وصحبتهما لقومهما السابقين، تخدمانهما وتتلقىان منهما نورانية العبادات، فتلمسان الفرق حين تنتقلان إلى غيرهم ممن لا خبر لهم بأن الدين مراتب، وأن العبادات يختلف طعمها وقدرها وأجرها من مرتبة لأخرى، فتقرران العودة للبيئة النقية والصحبة الصالحة، تقول الأولى “ردوني عليهم”، وتقول الثانية للحسن بن صالح: “ردني ردني”.
2- العبادة بين مرتبتي الإسلام والإحسان
علمنا الله عز وجل، عن طريق رسوله في السماء جبريل عليه السلام الذي بعثه إلى رسوله في الأرض محمد عليه الصلاة والسلام، أن الدين مراتب: إسلام فإيمان فإحسان.
كان هذا المشهد الجلل على مرأى ومسمع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرويه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلا: ‘‘بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: “يا محمد أخبرني عن الإسلام”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا”، قال: “صدقت”، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: “فأخبرني عن الإيمان”، قال: “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: “صدقت، فأخبرني عن الإحسان”، قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم” (4).
مراتب لا تلغي إحداها الأخرى، ولا يمكن الفصل بينها، بل هي كل مكتمل يتأسس بعضه على بعض، يبقى أن الانتقال من مرتبة لأخرى يتطلب جهدا وجهادا للنفس وعملا متواصلا ويقظة ومراقبة لله عز وجل في صغار الأمور قبل كبارها: “أن تعبد الله كأنك تراه”.
· مرتبة الإسلام: (وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟ ــ وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟)
هي مرتبة تطلب من المرء طلبا جازما أداء ما افترضه عليه الحق سبحانه وتعالى من أركان ومنارات حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ‘‘إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئا، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئا، فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن كلهن، فقد ولّى الإسلام ظهره” (5).
هي المرتبة الأولى والأساس في دين الله، ولا يمكن الحديث عن مراتب أخرى في غيابها، فمن لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله – وهي أولى أركان الإسلام – لا يمكن أن يكون مسلما، فكيف يكون مؤمنا أو محسنا.
هي مرتبة الوجوب في القيام بالفرائض الدينية، يثاب الإنسان على فعلها ويحاسب على تركها، واكتفاؤه بها لا يضيع إسلامه، لكن القناعة من الله حرمان.
هذا الاكتفاء هو ما كان عليه حال القوم الذين انتقلت إليهم الجاريتان. فالأولى وجدت قومها لا يصومون إلا رمضان، واستغربت للاستعدادات المادية المحضة التي كانوا يقومون بها لاستقبال هذا الشهر العظيم بتهيييء ما لذ وطاب من الأطعمة. والثانية وجدتهم لا يصلون إلا المكتوبة.
إن الإتيان بالواجبات الشرعية والاستقامة عليها أمر مطلوب، لكن مراتب الدين في الدنيا ودرجات الجنان في الآخرة تفرض ألا يقتصر العبد على ما فرض الله تعالى، بل يستزيد من النوافل ومن أفعال الخير ليكون من المومنين المحسنين.
· الإحسان: (كان كل زمانهم رمضان ـــ قيام الجارية الثانية في منتصف الليل للصلاة)
تقارن المرأتان، وقد فقهتا هذه المعاني وهذه المراتب، بين قوم اكتفوا وآخرين زادوا، وتفاضلان بينهم فتميلان لمن زادوا طالبتين العودة إليهم.
”كان كل زمانهم رمضان”: هي مرتبة الإحسان التي تنتقل بالمرء من زمن العادة إلى زمن العبادة، وتجعل كل أوقاته ذكرا وكل أعماله تقربا لله جل وعلا. قال مُعَلَّى بن الفضل: ”كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم” (6).
استعداد مستمر بالذكر والدعاء والتضرع وتجديد النية وصوم النفل وصلاة السنن والرواتب وغيرها من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربه.
وحِرْص على أحب الأعمال إلى الله تعالى التي تحقق بالمقابل محبة الله للعبد كما جاء في الحديث القدسي: ‘‘مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه” (7).
وتتطلب مرتبة الإحسان:
– إحسانا في العبادة؛ بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فهما مقامان كما يسميهما العلماء: مقام المشاهدة (أن يعبد المرء الله كأنه يشاهده)، ومقام المراقبة (أن يعبد الله وهو مستحضر مراقبة الله له واطلاعه عليه).
– إحسانا في المعاملة؛ تترجم برا بالوالدين والأهل والأقارب، وبسائر خلق الله من إنسان وحيوان، فقد دخلت امرأة النار في قطة حبستها.
– إحسانا في العمل؛ إتقانا وتجويدا، قال صلى الله عليه وسلم قال: ‘‘إن الله تبارك وتعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” (8).
3- المرأة وطلب المراتب
سَمَتْ همة المرأتين، ولم تلههما ظروف العيش وقسوتها عن طلب ما عند الله، علمتا أن لهما حقا في معرفته والسلوك إليه كما للرجال، فلم يثنهما عن ذلك كونهما جاريتين تنحصر وظيفتهما الدنيوية في الكد والعمل وهم المعاش اليومي وطاعة الأسياد حسب السائد والمعتقد.
”ردوني” كان نداءهما للتعبير عن تمسكهما بهذا الحق وبمن بهم يتحقق، حين فهمتا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم نداء الحث على المسارعة للطاعات والتنافس فيها، وعلمتا أنهما مخاطبتان بآي القرآن الكريم وبالأحاديث النبوية الشريفة بكل الأوامر والنواهي والأحكام، شأنها في ذلك شأن الرجل، إلا ما خص به اللهُ ورسولُه أحدهما عن الآخر حسب الطبيعة والوظيفة. يقول جل وعلا: والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله. إن الله عزيز حكيم (التوبة، الآية 92)؛ مساواة في التكاليف تقابلها مساواة في الأجر والثواب.
تمتلك المرأتان القوة الإيمانية والإرادية، فترفضان قوم الغفلة والتقصير والسوء بتعبير إحداهما (بعتني على قوم سوء…)، وتتمسكان بقوم تأخذان عنهم الزاد الروحي الذي تستعينان به على الارتقاء في مدارج السالكين وعلى توطيد العلاقة بالله عز وجل.
ذكرتا نفسيهما وغيرهما ــ متخذتين المقارنة وسيلتهما ــ بأن الناس عند الله ليسوا على درجة واحدة، بل تتفاوت مراتبهم وتتميز أحوال بعضهم عن بعض.
نلمس هذا التفاوت في الآية الكريمة التي يقول فيها الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (فاطر، الآية 32).
هو سباق إلى الله جل وعلا، يفوز به من جعل كل زمانه رمضان كناية عن كثرة صيام النافلة، وجعل جوف الليل قياما وذكرا وتهجدا، وجعل كل أعمال اليوم والليلة خالصة لوجه الله العظيم.
جعلنا الله ممن سبق وصدق وارتقى.
(1) ابن رجب، لطائف المعارف، الطبعة الأولى 2007، ص 346.
(2) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة الثالثة 1994، ص 132.
(3) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
(4) رواه مسلم.
(5) أخرجه الحاكم.
(6) ابن رجب، لطائف المعارف، م س، ص 348.
(7) رواه البخاري.
(8) رواه البيهقي.