كونوا عونا لأبنائكم على بركم

Cover Image for كونوا عونا لأبنائكم على بركم
نشر بتاريخ

تقديم 

(رحم الله والدا أعان ولده على بره) (1).  حديث نبوي شريف أخرجه ابن حبان في كتاب التوبة، يقر أن الرحمات تتنزل على كل والد كان عونا لفلذة كبده بتهيئة بيئة إيمانية يتنفس فيها الخلق الرفيع والأدب الحسن، وألا يكون في يوم من الأيام سببا في حمله على العقوق بسوء معاملته.

فالولد (إن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه) (2). فما هي الركائز الأساسية التي تعين الآباء على الظفر بأبناء بررة، يكونون لهم صدقة جارية يوم لا ينفع مال ولا بنون؟

الركيزة الأولى: معرفة الله عز وجل

فمن أهم الواجبات وآكدها التي ينبغي على الآباء والأمهات أن يحرصوا عليها كل الحرص؛ جعل كلمة التوحيد -لا إله الا الله- مفتاح الأنوار، والقرآن الكريم مركز العملية التربوية. بهذه المعاني نبني نفسية الطفل، ونكوّن شخصيته ليكون سلوكه في المستقبل سلوكا سويا. ولتكن (أول كلمة تفرحين بها تخرج من فم الصبية والصبي لا إله إلا الله، وأول جملة قل هو الله) (3).

لأنه إن أهمل في الصغر، شقي وانحرف عن الطريق، فيصبح الإثم إذ ذاك في رقبة الوالدين. قال الحق سبحانه وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (التحريم، 6). تنبيه إلهي للوالدين وتذكير لهما بصون الأزواج والذرية عن نار الآخرة.

يقول الإمام المجدد: (مهما كان الأدب يصونه عن نار الدنيا فلأن يصونه عن نار الآخرة أولى) (4). نفهم من هذا الكلام أن الغاية العظمى للآباء في هذه الحياة؛ هي احتضان الأبناء ومصاحبتهم والسير بهم – بالتي هي أحسن – نحو طريق معرفة الله عز وجل، والدلالة عليه، ولن يتأتى لهم هذا إلا بغرس الفهم عن الله في الأذهان، والمحبة والرحمة في القلوب.

الركيزة الثانية: الحلال والحرام

(أكل الخبيث ومخالطة الخبثاء، كلاهما تغذية لنفوس الصغار والكبار بالسموم المهلكة) (5). في هذا العصر الذي تتلاطمه أمواج الفتن من كل صوب وحدب، لا تكاد تسمع عن الدرهم الحلال إلا ممن رحم الله. ورعاية الأبناء من مأكل ومشرب وكسوة من الحرام هو إيذان بالحرب من الله تعالى، ومقدمة لتشكل الطبع مع الحرام، والميل إلى الانحراف، فيشتد العود رويدا رويدا على رديء الأخلاق، فيبدأ الوالدان في حصاد بذور الحرام التي غرست في مهد التربية. فالأم التقية النقية لا تلد إلا ابنا بارا، والوالد الصالح لا يربي إلا تقيا. فأكل الحلال واجتناب الحرام مدخل أساسي في عون أبنائنا على البرور بنا.

الركيزة  الثالثة: العدل بين الأبناء

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اشهد أنني نحلت النعمان كذا وكذا من مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان) قال: لا، قال: (فأشهد على هذا غيري)، ثم قال: (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)، قال: بلى، قال: فلا إذا) (6).

توجيه وإرشاد نبوي لنا معشر الآباء للمساواة بين الأبناء في العطية، سواء كانت مادية أو معنوية، لأن من شأن التمييز أن ينبت في نفوس الذرية الحقد والكراهية والضغائن، ويبني شخصية عدوانية مع مرور الزمان تنتقم من الصغير والكبير، ومن القريب والبعيد، وتسخط على واقع أسري لم تستنشق فيه قط نسائم العدل. (حب البنين والبنات واللطف بهم ونحلهم النحلة – وهي العطية – الحسنة سنة مؤكدة) (7).

فتقبيل الأبناء، وحسن استقبالهم، والمدح والثناء عليهم.. كلها أساسات تربوية أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدل فيها. فعن أنس رضي الله عنه أن رجلا كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبّله وأقعده على فخذه، وجاءته بنت له فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا سويت بينهما) (8).

الركيزة الرابعة: التربية فن ومهارة

ليس المطلوب من الآباء بناء جيل مثالي ومعصوم، ولكن المطلوب هو تطعيم الأبناء بالقيم الحسنة، ثم تركهم ينطلقون في الأرض محصنين، حتى وإن وقعوا في الخطأ سيؤنبهم الضمير في الحال، ويرجعون إلى جادة الصواب؛ لأن مناعتهم الفكرية والإيمانية والعاطفية صلبة قوية لا تستطيع الرفقة السيئة ولا الأفكار الهدامة أن تنال منها.

فأخوف ما نخافه على الآباء أن تكون نياتهم في التربية صادقة سليمة، لكن الأسلوب والطريقة قد تحيد عن جادة الصواب، ونكون كمن يبني على الرمال أو يخط فوق الماء. فالتربية لها قواعد وأساليب ومهارات نجدها مبثوثة في بيت النبوة، حيث كان خير الخلق يطبقها أثناء تعامله مع السبطين الحسن والحسين بشكل خاص، ومع عامة أبناء الصحابة رضوان الله عليهم.

لنتعلم ونكتسب مهارة الحوار والتواصل، وفن الإنصات والاستماع إلى احتياجات الأبناء، وأسلوب الإقناع بدل القمع والتسلط، وتشجيع المبادرة، بحميد القول وجميل الأفعال، بدل النقد والإحباط، من شأن هذا كله أن يفتل في تقوية الرابطة العاطفية وزرع الثقة بين الآباء والأبناء في كلا الاتجاهين. (يشجع الصبيان والغلمان والفتيات على كل حميد من الخلق وجميل من الأفعال مما يقربهم إلى الله ويبعدهم عن غضب الله. الصلاة، والقرآن، والرحمة بالضعيف، والنظافة، والصدق، والحياء) (9).

الركيزة الخامسة: مركزية الدعاء

حينما نستوفي الركائز السالفة الذكر، يكون لدعائنا وتضرعنا إلى الله معنى، واستجابة الله عز وجل حقيقة يقينية.

فالدعاء أولا ووسطا وأخيرا، وهو خلق الأنبياء. نتضرع به إلى الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، آناء الليل وأطراف النهار، فقد دعا به سيدنا زكريا حينما قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (آل عمران، 38)، ودعا به سيدنا إبراهيم فقال: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (إبراهيم، 40). وهو دأب الصالحين من عباد الرحمن حينما ذكرهم الله عز وجل في قوله تعالى: ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (الفرقان، 74).

ما أجمله من دعاء حينما يجعل الله عز وجل أعين الآباء تقر بأبنائهم عند رؤيتهم، وأثناء مجالستهم.

(قلت: شاركاه في ثوابه حيث أصلحا فيه عملا فكانا سبب استقامته بما هديا وربيا، ثم يجنيان ثوابا لا ينقطع بدعائه ودعاء من بعد من ذرية صالحة) (10).


الإحالات:

(1) رواه ابن حبان.

(2) الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، 106/4.

(3) الإمام ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، ج2، ص 262.

(4) نفسه، ص 280.

(5) نفسه.

(6) أخرجه مسلم في صحيحه.

(7) تنوير المومنات، م. س. ص 277.

(8) أخرجه مسلم.

(9) تنوير المومنات، م. س. ص 281.

(10) تنوير المومنات، م. س. ص 279.