بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أكثر الناس يعتقدون السعادة في المال، فيلهثون وراء حطام الدنيا الزائل، يُظمئون نهارهم، ويسهرون ليلهم، حتى إذا جمعوا ما يعتقدون به سعادتهم، ازدادوا شقاء، وتيقنوا أن المال وحده لا يحقق السعادة، فسولت لهم أنفسهم أن الشهادات العليا المجردة عن الإيمان والعمل الصالح، هي السبيل لتحقيق سعادتهم، فبذلوا النفس والنفيس، حتى حصلوا على الشهادات العليا التي لم تزدهم إلا ضنكا في العيش، ثم تطلعوا إلى المناصب العليا معتقدين أنها هي موطن سعادتهم ومنتهى غايتهم، فوظفوا شهاداتهم وما جمعوه من أموال لنيل المناصب العليا، فلما تربعوا على الكراسي ازدادوا شقاوة وضنكا، ورحلوا من هذه الدنيا الزائلة، والسعادة عندهم كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنه فوفاه حسابه.
إن الحقيقة الصادمة التي تقلب موازين الكثير من الناس؛ والتي أكدها الواقع المعيش الذي هو محك التجارب، أن السعادة قانون إلهي، وليست ادعاء بشريا، وأن معادلة هذا القانون، هي الإيمان والعمل الصالح، مصداقا لقوله تعالى من سورة النحل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، والإيمان والعمل الصالح هو الذي سماه الله تعالى هدى الله الواجب اتباعه بقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123- 124]، ومن نماذج المتبعين لهدى الله تعالى، علماء المسلمين الصادقين عبر التاريخ، الذين هم قدوة للعالمين بسلوكهم وأخلاقهم ومواقفهم، أولئك الذين ضربوا أروع الأمثلة في الثقة بالله، واليقين فيما عند الله، والصبر والبذل، استجابة لربهم، وأداء لرسالته وتبليغ دعوته، هؤلاء العلماء، إنما ابتلوا بسبب جهرهم بالحق، ومخالفتهم للأهواء، فلم يزدهم كيد الكائدين، وتدبير الخائنين إلا قوة وثباتا، ولم يمنعهم عن قول كلمة الحق لا ضرب السياط، ولا إراقة الدماء، ولا إزهاق الأرواح، لأنهم على الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
ليكن للباطل سلطانه وسطوته وجبروته، ولتكن مع الباطل جموعه وجنوده، كل هذا لا يثني عزيمة العالم المؤمن الصادق القدوة، ولا يغير من الحق شيئا، هذه هي اللمسة الإيمانية في قلب المتصل ببارئه سبحانه وتعالى، فإذا هو قوي قويم، وإذا بكل قوى الأرض ضئيلة أمامه، وكيف يخشى من قلبه متصل بالله؟! وكيف يخشى من يتطلع إلى حياة الخلد عند مليك مقتدر؟! قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ، فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (آل عمران: 175).
هكذا يقابل كل عالم صادق جحافل الباطل، ولسان حاله ومقاله يقول كما قال ابن تيمية رحمه الله: (ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي في صدري، أين اتجهت فهي معي، أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة)، إنها همم تتقاصر دونها كل القوى الباطلة مهما انتفخت وانتفشت وأزبدت، ويعجز عن بلوغها من عمّر قلبه بحب الدنيا والركون إليها.
إذا كان السجن والنفي والقتل في نظر الكثير من الناس عموما، وفي اعتقاد الجلادين خصوصا شقاء، فهؤلاء هم النماذج الحية الصحيحة الذين استطاعوا صناعة السعادة، بهذه الوسائل التي مورست عليهم، متحدّين الباطل المسيطر على عالمهم الخارجي.
إننا باستطاعتنا صناعة السعادة، إذا علمنا أن السعادة قانون إلهي وليست ادعاء بشريا، والتزمنا بمعادلة هذا القانون، وعلى قدر يقيننا وثقتنا بالله، سنردد مع العالم الفقيه المجاهد ابن تيمية رحمه الله “ما يفعل بنا أعداؤنا، فسجننا خلوة، ونفينا سياحة، وقتلنا شهادة؟!”.
لقد ابتلي ابن تيمية رحمه الله بمحن كثيرة؛ لم تخل فترة من حياته منها، ولم يكد يخرج من واحدة إلا وابتلي بأُخرى، وكذلك هي حياة الحر الذي عرف أهمية الكلمة، ولم تثنه المخاوف والتهديدات عن الجهر بكلمة الحق وإعلاء منهج الله، والثبات على الصراط المستقيم، ودحض الكذب والباطل، وبيان عواره وزيفه، وما ابتلي رحمه الله بمحنة إلا وخرج منها منتصراً، ويصبح بسببها أكثر سعادة وقبولا ومحبة، أكثر مما كان من قبل، ويتضح للناس به الحق.
لقد كان ابن تيمية رحمه الله فقيها ومحدثا ومفسرا وفيلسوفا ومتكلما وعالما مسلما مجتهدا من علماء أهل السنة والجماعة ومجاهدا. ولد عام 661هـ، الموافق 1263م، بِحرّان المدينة القديمة القريبة من مدينة حلب السورية، وتربى منذ بدايته الأولى على العلوم الشرعية، فأبوه وأجداده وإخوته وكثير من أعمامه وحتى أمه هي كذلك كانت عالمة صالِحَة، اسمها سِتُّ النِّعَمِ، عاشت َفوْقَ السَّبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَلَدَتْ تِسْعَةَ بَنِينَ، وَلَمْ تُرْزَقْ بِنْتًا قَطُّ، كانت أسرته رحمه الله كلها من العلماء المشاهير، بدأ بطلب العلم على أبيه وعلماء دمشق بسوريا، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها، فلم يلبث أن صار إماما معروفاً وذائع الصيت قبل بلوغ الثلاثين من عمره.
لقد نشأ ابن تيميَّة رحمه الله حنبلي المذهب، فأخذ الفقه الحنبلي وأصوله عن أبيه وجده، كما كان من الأئمة المجتهدين في المذهب الحنبلي، سمع ابن تيمية من أزيد من مائتي عالم، كما يذكر جل المؤرخين، وشرع في التدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة، بالإضافة إلى أنه قد بدأ في هذا السن بالتأليف أيضاً.
لقد مر ابن تيمية بمحن مريرة بسبب آرائه، فتعرض للسجن في مصر والشام سبع مرات، ولمدد متفاوتة، وفي أماكن مختلفة، فقد سُجن في مصر في القاهرة، ثم نُقل إلى الإسكندرية، وسجن أيضًا في دمشق بسوريا في القلعة مرارًا حتى مات وهو في السجن؛ فكانت السجنة الأولى في دمشق عام 693 هـ، وكانت مدتها قليلة، وفائدتها كبيرة، وثمرتها جليلة. والسجنة الثانية كانت في القاهرة، وكانت مدتها سنة ونصف، من يوم الجمعة 26 رمضان 705هـ، إلى يوم الجمعة 23 ربيع الأول 707هـ؛ كانت بدايتها في سجن “برج”، ثم نقل إلى الجب بقلعة الجبل. والسجنة الثالثة كانت بمصر أيضاً، ولمدة قليلة، أسبوعين من 3/شوال/707هـ إلى 18/شوال/707هـ. والسجنة الرابعة بمصر كذلك، في قاعة “الترسيم”، لمدة شهرين أو تزيد، من آخر شهر شوال 707هـ، إلى أول سنة 708هـ. والسجنة الخامسة كانت بالإسكندرية من يوم 1/ربيع الأول /709هـ إلى 8/شوال/ 709هـ، لمدة سبعة شهور. والسجنة السادسة كانت بدمشق، لمدة ستة أشهر تقريباً، من يوم الخميس 12/رجب/720هـ إلى يوم الإثنين 10/محرم/721هـ. والسجنة السابعة والأخيرة بدمشق لمدة عامين وثلاثة أشهر ونصف تقريباً، من يوم الإثنين 6/شعبان/726هـ، وفي 9 جمادى الأولى سنة 728 هـ، لما لاحظ جلادوه أن سجنه لم يثن من عزيمته، جاء الأمر بمصادرة جميع أدوات الكتابة وهو في السجن، ومنع منعاً باتاً من المطالعة، ولم يكتف جلادوه بهذه المصادرة، لأنهم فشلوا في التضييق عليه، فحُملت مُسَوّداته وأوراقه من المحبس إلى المكتبة العادلية الكبرى، وذلك في مستهل شهر رجب 728 ه، فكانت نحو ستين مجلداً من الكتب، وأربع عشرة ربطة كراريس. ويُذكر أن ابن تيمية بعد مصادرة أدوات الكتابة منه، لم يبق مكتوف الأيدي، بل بدأ يكتب بالفحم على أوراق متناثرة، وقد حفظ التاريخ بعض هذه الكتابات، وفي ليلة الإثنين 20/ذي القَعدة/728هـ، فاضت روح ابن تيمية إلى بارئها وهو بالسجن، وأخرجت جنازته من سجن القلعة إلى مثواه الأخير، وقضى خلال هذه المدد التي سجن بها ما يقرب من 5 سنوات من عمره، كما ذكر الحافظ بن كثير في «البداية والنهاية».
هكذا كانت نهاية هذا العالم الرباني، في سنة 728 هـ، الموافق 1328م في حبسه في قلعة دمشق، وقد بلغ من العمر 67 سنة، قدم فيها للمكتبة الإسلامية ما يقرب من «591» مؤلفا، تفاوتت ما بين التفسير وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه والفتاوى، وأصول الفقه والعقائد والزهد والسلوك والتصوف والأخلاق وعلوم أخرى.
لقد عرف هذا العالم أن السعادة لا تأتي من الخارج، وإنما تكون من داخل الإنسان، كما عرف كيف يصنع السعادة، بعد تزوده بالإيمان والعمل الصالح، فكان يرى حريته الحقيقية على مستواها النفسي والفكري، وليس الجسدي، ويرى نفسه في خلوة لا يمكن لها أن تُقيّد أو تَكبح جماح أفكاره أو همته أو عمله أو تحقيق حلمه، ولو أمسكوا جسده، وحبسوا جثمانه.
لقد كان ابن تيمية رحمه الله، فذّا في كل شيء، في الحفظ والعلم والمناظرة والتأليف والعبادة والعمل والجهاد، وكان عصره في سلسلة الحروب الصليبية، شاهد الحروب الداخلية بين المماليك المسلمين، والتآمر مع الصليبيين وغيرهم من الغزاة. وعايش تراجع العلم والاجتهاد، بل توقفه، وانتشار التقليد والزيف والتحريف، وعانى مثل غيره الظلم والاستبداد بكل أنواعه، لكنه لم يقبل مثل غيره من علماء السوء الركون إلى الواقع الموبوء، ولا مناصرة الحكام الظلمة، بل كان متحفزا عالما مجاهدا عاملا، فكثر أعداؤه، وتعدد خصومه، وأقيمت له محاكمات عديدة، وسجن مرات كثيرة، ولم يكن إلا بسبب آرائه الفقهية والعلمية، وفي آخر أيامه اعتقل لمدة سنتين في قلعة دمشق، ومنعت عنه الزيارة، وسحبت كتبه وأقلامه، وتُرك وحيدا حتى مرض والتحق بالرفيق الأعلى وهو يصدع بكلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم.
لقد تتبعتم مسيرة هذا العالم الرباني، ولاحظتم كيف أنه لم يستسلم للواقع، ولم ينهزم أمام الخصوم، بل انتهز فترات سجنه، فصنع منها السعادة التي لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدوه عليها بالسيوف، فجعلها فرصة للعبادة والذكر والقيام ومجاهدة النفس والمرابطة والاجتماع على الله، والتأليف والدرس، فألف أثناء سجنه رسالة في إصلاح السجون، شرح فيها حقوق السجين، وواجبات الدولة نحوه، والتفت رحمه الله إلى المجتمع المسلم، فواجه الشيعة والقدرية والجهمية والاتجاهات المختلفة، ونذر وقته ونفسه وحياته كلَّها لله، يجاهد في سبيل الله، بالقول والقلم والنفس والمال، وكانت حياته كلها لله تعالى، علماً وتعلماً وتعليماً وتربية وجهاداً ونشراً للحق والدفاع عنه، ودحضاً للباطل وبياناً لعواره وزيفه، فلم يقف عاجزاً مكتوف اليدين، ولولا مثل هؤلاء الذين قيضهم الله للوقوف أمام الفساد بكل أنواعه، والتصدي للظلمة المستبدين، وثباتهم وبذلهم، لَفسد الدين.
لقد قال ابن تيمية رحمه قولته الشهيرة، ولم تكن مجرد كلام، بل برهن عليها بفعله وسلوكه، عندما استثمر فترة سجنه في التأليف والدرس، وحرص على القيام بسد ثغرة لم يقم بها غيره في زمانه، وأصبحت مقولته نبراساً لكل أسير حبس أو أُوذي دون كلمة الحق، وشعارا خالدا لكل صانعي السعادة في كل زمان ومكان.
كان ابن تيمية رحمه الله في آخر عمره نموذج المربي المصحوب، الذي بحاله تنهض الهمم، وبمقاله يدل على الله تعالى، وهذا واحد من تلامذته وهو ابن القيم رحمه الله يتحدث عن أمور قلبية تربوية تشربها من أستاذه عن طريق الصحبة فيقول: “كنا إذا ضاقت بنا الدنيا وسبلها، ونحن طلقاء، قمنا بزيارة ابن تيمية وهو مسجون في سجن القلعة في دمشق، فو الله ما هو إلا أن نراه حتى يُسرى ما بنا من هموم، وهو المسجون، لكنه مع الله، تجد المتروكين تأتي لهم الهموم، والذي مع الله وهو مسجون، يعيش في آفاق واسعة من الراحة والأمن، فإذا سلّمنا عليه قال لنا: المسجون من سُجن عن خالقه، والمأسور من أسره هواه وشيطانه”، ويقول: “ماذا يفعلون بي؟ هل عندهم أعظم من هذا، إما أن يكون سجناً، أو ترحيلاً، أو قتلاً، فإذا كانت هذه أقصى الوسائل التي يهدد بها الطغاة عامة الناس ويخوفونهم، فكلها أمنيات للمؤمنين”.
وقد استفاد ابن القيم رحمه الله من أستاذه ابن تيمية رحمه الله، وظهر فيه جليا الجانب التربوي الذي تفتقده الأمة عموما، وأتباعه في عصرنا الحالي خصوصا، فقال في شأن صناعة السعادة: (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا).
ذكّرنا بسيرة ابن تيمية رحمه الله تعالى، لا للتسلي بها، والاقتصار على الافتخار بهذه الشخصية الفذة وتقليدها في الخلافات الفرعية من الدين دون الكليات، وإنما ذكّرنا بها لتكون قدوة حقيقية لمن يريدون أن يكونوا سلفية حقا لا ادعاء، ولا يناصرون الحكام الظلمة ويبررون تصرفاتهم باسم الدين، ولنؤكد للناس جميعا أن السعادة تصنع، وفي مقدورنا صناعتها إن نحن اتبعنا هدى الله، فقد وعدنا سبحانه بالهداية والسعادة فقال في سورة طه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123، 124]، وهكذا يكون التفاؤل والتفكير الإيجابي وحسن الظن بالله، واليقين بأن أمر المؤمن كلّه له خير، فرحم الله “ابن تيمية” نموذج صانعي السعادة.