لن أنسى ما حييت تلك الليلة، ونحن ننتظر قدوم زائر عزيز نجدد معه معاني المحبة والإخاء، وكذا للتوجيه والإرشاد.
إجراءات التنظيم والإعداد فرضت علينا انتظارا حارقا لساعات قبل انطلاق اللقاء، انتظار كانت تخفف ثقله قراءات مباركات ومشاركات فنية، كان من بركاتها مجموعة إنشاد أتحفت الحضور بأطايب الابتهالات والمواويل. وفي لحظة طرب وانتشاء أخذ الميكروفون أخ حبيب لبيب أسهب في الحديث وأطال.
فجالت بين أضلعي مواقف الضجر منه، وبدأت أكيل له العتاب في خاطري؛ “الله يهديك اسي فلان، خلينا نستمتع مع الطرب أما مواضيع التنظيم والتربية وغيرها فلا شك أنها ستكون موضوع الزيارة”.
وفي الوقت الذي توقع منه الجميع أن يعيد الكلمة للفِرقة إذ به يقول: “الآن سأحدثكم في موضوع مهم وهو (الوالدين)”. فعلت وجوه الحاضرين علامات الاستخفاف، وبدوري تأففت من جديد وأسررت في نفسي ابتسامة ساخرة: “ما عساك تقول عن الوالدين وكلنا أبناء دعوة من أولى اهتماماتها التأكيد على بر الوالدين”، قبل أن تهتز جدران قلبي ويضطرب قاع لبي، وأحسست بآذان قلبي تسبق سمعي إلى شفتيه وهو يقول: “عنداك تظن أنك تقبل رأس والدك حين تقبله من فوق الطاقية، راك بست غير الطاكية أمسكين، أو أمك عندما لا تزيل غطاء رأسها، فراك بست غير الزيف والخرقة، حيد الزيف وشوف الشعيرات الشايبين وتمتع مع راسك”.
لا أدري ما الذي وقع وكيف وقع، فقد نسيت الفرقة والفنان المبدع وكل شيء، وملأت صورة والداي علي الأفق وصدى تلك الكلمات يتردد في داخلي، ووجدتني مشدوها أطرق السمع وأستغفر الذنب وأنا المغبون؛ أقبل الطاكية والخرقة والزيف وأتوهم الحداقة و”الفهامة”.
لم تفارق صورة هذا الأخ عيناي طيلة اللقاء، وأصبح كل همي وتهممي لقاء قريب بالغالية أمي لأحظى منها بقبلة كنت فيها أنا المغبون السنون ذات العدد. فالحبيب طلب منا “جربوا وردوا عليا لخبار؛ او بيع او مقال”.
أربعة عشرة سنة مضت، وما هممت يوما بتقبيل رأس أمي إلا كانت صورة هذا الأخ الفاضل شاخصة بين عيني، فله مني جزيل الشكر والامتنان.
لم يكن درس “كيف تقبل رأس والديك؟” هو الوحيد الذي استفدته من هذه الواقعة، بل تعلمت دروسا عديدة وعبرا كثيرة تستحق أن نقف معها في مناسبات قادمة وهي :تعظيم المؤمنين وتوقيرهم واحترامهم وحسن الظن بهم وحسن الإنصات لهم، وعدم التقليل من قيمة أي حديث فلا ندري متى يسوق الله الخير والبركة؛ أفي أول الغيث أم في آخره.