يحاول أنصار التطبيع مع الكيان الصهيوني في المغرب أن يفكوا الحصار عن عزلة موقفهم من العلاقة مع الصهاينة، وأن يسجلوا أي اختراق في الموقف الشعبي المغربي الداعم للقضية الفلسطينية. ولعل ما شجع بعضهم أكثر على ذلك؛ نجاح بعض الحملات التطبيعية في إحداث ثقوب تسربت منها الدعاية الصهيونية لبعض المجتمعات العربية والإسلامية، حتى أصبحت لها نخبة تتجرأ على النيل من الثوابت، والتطاول على الحق الفلسطيني الساطع، دون أن تجد من الاستهجان ما كانت تلقاه في السابق.
كذلك فإن ما رشح عن استعداد الجانب الرسمي للانتقال بالعلاقة مع الكيان الصهيوني من الظل والدهاليز السرية إلى العلن، وما يحتاجه ذلك من توفير التبريرات اللازمة لهذا السلوك المحتمل حفز أنصار هذا الخيار على استثمار هاته الظرفية لإعادة ترويج بضاعتهم الكاسدة. لذلك فقد ركزت الدعاية للتطبيع على عدة نقاط لا تُتْرَكُ مناسبة دون أن يتم إثارتها بغية جر المغاربة إلى مستنقع المطبعين.
فلسطين قضية “قومجية” أو “إخونجية”
يصر أصحاب هذه النظرة على الإيحاء بأن فلسطين قضية الغير، فهي طارئة على البيئة المغربية، أتى بها مُسْتَلَبُونَ للمشرق من قوميين ويساريين وإخوان مسلمين، الذين فرضوا أولوياته وقضاياه علينا، متجاهلين بأن ارتباط المغاربة بفلسطين عريق جدا، وهو أقدم منهم ومن كل التيارات التي يتحدثون عنها. فدور المغاربة في جهاد الصليبيين معروف زمن الموحدين الأمازيغ، وقبل ذلك وبعده كانت فلسطين تعني للمغاربة، الناطقين بالعربية أو الأمازيغية على حد سواء، الكثير رغم محاولات تلك النبتة الفرنكفونية المسمومة، التي قامت بالسطو على مفهوم “اَلْمَغْرَبَة” وتعريفها على هواها في تلفيق مشبوه، يرمي إلى سلخ المغاربة عن هويتهم وصدهم عن قضية أمتهم المركزية، كأن من صميم “اَلْمَغْرَبَة” ضرب علاقة تاريخية ممتدة، والتآمر على حق شعب شقيق في نيل حريته.
مشكلة بعضهم تتجلى في سيطرة النفس العدائي تجاه تيارات معينة، وبدل أن يبعدوا القضية الفلسطينية عن الاحتراب الإيديولوجي مع تلك التيارات، فقد اختاروا جعلها موضوع استفزاز لخصومهم. طبعا هذا الأمر يتعلق بصغارهم، أما الكبار منهم فارتماؤهم في أحضان الصهاينة هو أمر مصلحي بَيِّن واستفادتهم منه واضحة.
لم يطلب أحد من هذا الفريق أن يقارب القضية الفلسطينية من زاوية غيره، فمثلما لم تمنع الخصومة التاريخية بين الإسلاميين واليسار من التنافس بينهما في إقامة الفعاليات التضامنية مع فلسطين كل حسب رؤيته، فقد كانت فرصته أن يقدم درسا يتجاوز ما يعتقد أنها ثغرات خصومه وتناقضاتهم بتبني تصور إنساني يظهر تفوقه المبدئي عليهم. وله في ما يفعل المتضامنون في أوروبا وأمريكا اللاتينية الذين لا يمكن اتهامهم قطعا بالتزمت الديني أو التعصب العرقي خير مثال، والذين انتصروا لشعب مظلوم رغم كل الاختلافات معه ضد احتلال استيطاني غاشم.
ذلك أن المناضل الحقيقي مع إعطائه الأولوية لقضيته هو لا يناصب العداء لقضايا عادلة أخرى، فضلا عن أن يطعنها في الظهر بشرعنة احتلال عدوها. وهو بهذا السلوك يسيء لقضيته من حيث لا ينتبه ويخصم من رصيدها الأخلاقي، هذا إن كانت لديه قضية من الأصل.
“تازة قبل غزة” و”المغرب أولا”
قد لا ينكر الكثير ممن يردد هاتين المقولتين ظاهريا عدالة القضية الفلسطينية، لكنهم يتعاملون معها بمنطق براغماتي صرف، متحدثين عن الكلفة الباهظة لتلك القضية التي تشكل حسب زعمهم، عبئا ثقيلا على المغرب ومصالحه بحجة عدم قدرة الدولة القطرية المغربية المعاصرة على التعهد بأية التزامات نحوها.
لا يبدو هؤلاء موفقين في إثارة هذه المسألة بالمغرب، فهي بمثابة اقتباس في غير محله مستورد من خطاب سائد في دول تحملت تغطية نفقات إسناد الفلسطينيين إنسانيا أو مولت مقاومتهم، حيث يحمل هذا النقاش في بيئته شيئا من الوجاهة بالرغم من الملاحظات العديدة التي يمكن أن يواجه بها، باعتبار أن ذلك الدعم لم يكن مجانيا وأنه أفاد تلك الدول وسوق لها وخدمها أكثر مما خدم فلسطين، إلا أنه غير مطروح في حالة المغرب الرسمي، ذلك أن الدعم المقدم من جهته لا يساوي شيئا أمام ما قدمه الآخرون. فالقضية لم تكن يوما في سلم أولوياته، حيث اقتصرت أدواره على الترويج لحلول ترقيعية تطوي صفحة الصراع مع الصهاينة وتكسبه الرضا الغربي عليه. لذلك فإن جل ما كان يطلب منه من الصراع هو كف أذاه عن القضية عبر عدم شرعنة احتلال استيطاني مثل أي دولة تحترم نفسها وتحترم المبادئ التي قامت عليها.
على أن هذه التهمة تلاحق كذلك التنظيمات المجتمعية التي يروج بأنها تهمل هموم المغاربة وآلامهم وتركز على قضية تبعد عنها بآلاف الكيلومترات. ولئن انطبق هذا الأمر على بعض الشخصيات فإن تعميمه على الغالبية أمر مخل. فالملاحظ أن المكونات الرئيسية التي تشكل العمود الفقري لفعاليات التضامن مع فلسطين، هي ذاتها التي يتصدر ناشطوها الحركة الاحتجاجية المغربية، فكما تنظم الوقفات والمسيرات من أجل فلسطين هي نظمت كذلك عددا من المسيرات من أجل حراك الريف والمعتقلين والأساتذة المتدربين وغيرها، دون أن ننسى انخراطها القوي في حراك 20 فبراير، مع استمرارها في دفع ثمن مواقفها من الفساد والاستبداد في البلاد. كما أن الملاحظ أيضا أن كل من غادر معسكر المعارضة واقترب من دائرة النظام، خَفَتَ تضامنه مع القضية الفلسطينية وتورط بشكل مباشر أو غير مباشر في التطبيع مع الصهاينة.
واضح إذا أن مواقف النخب المغربية في الملفات الداخلية والخارجية تحظى في المجمل بالتناغم والانسجام، فممانعو الداخل في غالبيتهم يتعاطفون مع ممانعة الخارج، فيما يلاحظ أن المفرطين في حقوق المغاربة هم أكثر حماسة لخط التسوية والتطبيع.
الركوب على “علاقة” منظمة التحرير الفلسطينية بجبهة البوليساريو
الإصرار على استحضار بعض الإشكالات القديمة مع منظمة التحرير الفلسطينية بخصوص العلاقة مع جبهة البوليزاريو، هو إحدى الأساليب المعتمدة لتأليب المغاربة على القضية الفلسطينية بداعي أن الفلسطينيين لا يستحقون تضامننا، ففي الوقت الذي يساند الشعب المغربي كفاحهم نحو تحقيق سيادتهم على أرضهم، كانوا هم يتآمرون على وحدته الترابية.
مشكلة هذا الطرح أنه يتصيد أخطاء بعض الفلسطينيين كي يضفي حكما سلبيا على عموم الشعب الفلسطيني، بغرض التشكيك في مظلوميتهم والانتقاص من عدالة قضيتهم، فيعتقد من يتبناه أنه وجد بذلك ما يبرر به اصطفافه لصالح المعتدي. ثم أن من يَنْظُرُ لمروجي هذا الخطاب يخيل له أن الفلسطينيين هم رأس حربة المتطاولين على الوحدة الترابية، فيما أن الأمر لم يتجاوز بعض المواقف القديمة التي صدرت في إطار المناكفات السياسية من بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، خلافا للساحة الفلسطينية اليوم لا سيما بعد مراجعات هذا الخط السياسية، وبعد ظهور تنظيمات ذات وزن سياسي كبير لم يسجل عليها أي استفزاز للمغرب الرسمي مثل حماس والجهاد الإسلامي.
هذا ما يجعل الموضوع يندرج في إطار استخدام ورقة الصحراء المغربية، عبر تحميل فلسطين مسؤولية فشل المغرب الرسمي في تدبير ملف الوحدة الترابية، والتخلص من أي التزام أخلاقي حيالها، وذلك من أجل مقايضة ملف وحدته الترابية بها حسب ما يُمَنِّي به النفس، لكنه لا يدرك أن نقطة ضعفه التي تعقد حلحلة ملفه العالق هو منطقه هذا الذي يخضعه لابتزاز الخارج الدائم، إذ ما من داع لوفاء القوى الغربية بأي التزام نحوه ما دام ذلك يخدم مصلحتها المتمثلة في استمرار استغلال المغرب ولي ذراعه في كل محطة سياسية مفصلية.
ثم إن بازار التنازلات إن فتح فلن يفضي إلى أية نتيجة، فحتى لو افترضنا أن خطوة المغرب التطبيعية المرتقبة ستدفع العالم الغربي للانحياز إلى موقف المغرب، ما الذي يضمن ألا تخطو الجزائر خطوه؟ بل إن جبهة البوليساريو قد تتجاوز التطبيع إلى نقل جزء من معسكراتها إلى صحراء النقب، الشيء الذي يفقد خطوة المغرب أية قيمة وهو ما سيعيد القضية إلى مربعها الأول.
الثابت أن البحث عن شماعات خارجية في ملف الصحراء ما عاد مجديا، وحده تأمين الجبهة الداخلية بإقامة العدل والقضاء على الظلم والفساد من سيحل كل مشاكل المغرب، وليس فقط مشكلة وحدته الترابية.
“صلة الرحم” مع “مغاربة” الكيان الصهيوني
تشكل العلاقة الملتبسة مع الصهاينة من أصل مغربي إحدى المداخل الأساسية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ورغم أن هذا المعطى قديم باعتبار أن النظام المغربي حاول استثمار ورقة اليهود المغاربة ونفوذهم في الكيان الصهيوني، من أجل تحسين علاقته بأمريكا والقوى الغربية الأخرى مثلما هو معروف، ورغم تورط بعض الفنانين والصحفيين المحدودين في زيارة الكيان الصهيوني؛ إلا أن هذه الحركة ظلت معزولة تماما عن الجانب الشعبي.
اليوم يراد تعميم شذوذ المطبعين ليطال عموم المغاربة، وهو ما بدت مظاهره تتجلى في السعي نحو إحداث تقارب مع الطرف الصهيوني عبر الواجهة الفنية والثقافية، وهكذا تم استغلال الشبكة العنكبوتية من أجل ترويج بعض المقاطع الفنية المغربية المغناة من طرف فنانين “إسرائيليين”، وتقديم أطباق الطبخ التقليدية ونقل ذكريات عدد من قدماء الصهاينة عن بعض الأحياء والمدن المغربية العريقة، كل هذا وغيره لإثبات أن الصهاينة من أصول مغربية هم أقرب للمغاربة من الناحية الثقافية من الفلسطينيين المتشبعين بثقافتهم المشرقية. حتى إن بعض المنابر الإعلامية المغربية احتفت مؤخرا بقائمة وزراء حكومة نتنياهو الأخيرة من أصل مغربي مثلما تستعرض قائمة المحترفين المغاربة في الدوريات الكروية الأوروبية.
اللافت أن هناك من يريد جعل هذه الشريحة تتمتع بنفس وضعية مغاربة المهجر، فيستهجن موقف المجتمع المغربي منهم متهما إياه بالتعصب الديني، رغم أن القضية بالأساس مرتبطة بأفعالهم وليس بأصلهم أو دينهم، ذلك أن السلوك الطبيعي لأي مجتمع؛ هو التبرؤ من أي شخص ينتسب إليه سبق أن تورط في جريمة قتل أو اغتصاب أو نصب واحتيال أو غير ذلك. فكيف إذا كنا أمام مجموعات ارتكبت جرائم حرب بحق شعب أعزل وساهمت في تهجيره وسرقة أراضيه؟
تظل محاولات أنصار التطبيع هاته محدودة التأثير في اختراق المجتمع المغربي، نظرا لتهافتها وضعف حجتها والتي لا يرتقب أن تحقق شيئا في هذا الاتجاه، وهو ما يجعل المغاربة محصنين أمام حملات الكراهية تجاه فلسطين. نشير هنا إلى أن التضامن الشعبي مع القضية الفلسطينية أكبر من أن يكون نتاج تأطير إيديولوجي أو سياسي، بدليل تفاعل مختلف المكونات المجتمعية معها حتى روابط ألتراس الفرق الوطنية، والذي أثمر أغنية “رجاوي فلسطيني” ذائعة الصيت وغيرها، والتي لا يزال صداها يتردد في مدرجات الملاعب المغربية. ويبقى التحدي هو استثمار هذا الموقف الشعبي في إيقاف أية محاولة لخدمة الأجندة الصهيونية في البلاد، وألا يقتصر، كما جرت العادة، على ردود الأفعال وعلى الاحتجاج على الضربات فقط بعد تلقيها.