في زخم الحياة، عند ملتقى طرق كبير، يقف حائرا مترددا أيها يسلك، أربكه جسمه الذي أسرع في النمو وتطلعات نفسه التي تتضخم كل يوم، وملاحظات الجميع حول تصرفاته وتغيراته تزيد الطين بلة ولا تسمح له بإظهار ضعفه وحيرته أمام مجتمع الكبار الذي يأبى إلا أن يحشره رغما عن أنفه ومجتمع الصغار الذي لفظه فجأة دون سابق إنذار.
نفس الحيرة تنتاب الآباء في هذه المرحلة الحرجة من حياة أبنائهم ومسؤوليتهم التربوية، وهم يتطلعون إلى جني ثمرة جهدهم ورجولة لما تخرج من بيضتها.
ماذا يقع لأبنائنا في مرحلة المراهقة ؟ ما النتيجة ؟ كيف يجب علينا أن نتصرف؟
ماذا يقع؟
تغيرات كبرى يعرفها المراهق في هذه المرحلة الانتقالية، إن على مستوى جسمه ومظهره الخارجي، أو على مستوى نفسيته وملكاته العقلية وكذا الروحية، كلها تؤهله للدخول بروية في عالم الكبار المسؤولين الحاملين غير المحمولين.
1-ففي الجانب العضوي: يتضخم الجسد الصغير وتظهر عليه أمارات النضج وعلامات الرشد المعروفة عندنا، المجهولة عنده، المرفوضة، المزعجة، المنغصة صفو الحياة الطفولية البريئة، وكيف يقبلها المسكين إن لم نهيئه لاستقبالها ونعرفه بطبيعتها؟
2- وأخرى نفسية:
*بعضها نتيجة التغيرات الجسدية، كالخجل منها وعدم تقبلها والانطواء على النفس، والعصبية التي تصل لدرجة العنف في بعض الحالات، كتعبير عن رفض هذه التغيرات، خاصة إذا لم يتم التهييء لها من قبل الوالدين.
*وبعضها طبيعي فيزيولوجي: كالحساسية المفرطة وحدة الطبع والتسرع نتيجة نمو انفعالي لم يستقر بعد.
3-وأخرى عقلية:
تتجلى في نمو المواهب العقلية والقدرات العملية، لتكون مرحلة المراهقة هي أوج العطاء والحماس، إن وجهت توجيها صحيحا، ووجدت احتضانا من الأسرة والمجتمع، أهم ما يجنيه المراهق من ثمارها استقلالية في التفكير، وقوة في الانتقاد والتعبير عن الرأي، وصياغة الاختيارات والقرارات الشخصية.
4-وماذا عن التغيرات الروحية؟
ينتاب المراهق في هذه المرحلة إحساس عميق بالفراغ الروحي العاطفي، فيندفع إلى إحدى وجهتين:
*المشادة في الدين والزهد المبكر أو ما يمكن أن نصطلح عليه هنا المراهقة الدينية بكل حمولتها العصبية، العنيفة، المتسرعة، المتهمة الناس في عقيدتهم وعبادتهم.
*طرح التساؤلات الوجودية وإنكار الديانات، بنفس التسرع والعصبية والتعنيف.
ما النتيجة؟
إن استقرت في أذهاننا فيزيلوجية المراهقة، وما يواكبها من تغيرات سالفة، نعرف أن ما يترتب عنها من نتائج هو أمر طبيعي يحسن بنا تقبله من المراهق بدون لوم أو توبيخ، وفيما يلي بعض المعالم التي تطغى على شخصية المراهق نتيجة ما يعرف من تغيرات:
*الصراع داخلي: بين مخلفات الطفولة، وتطلعات الشباب، بين الرغبة في الاستقلال عن الوالدين، والحاجة إليهما في نفس الوقت، بين طموحاته الزائدة الحماسية، وتقصيره في واجباته، خاصة الدراسية، بين ما تلقاه وما يزال يتلقاه من تعاليم دينية، وما أصبح يخطر في عقله من أسئلة كبرى وانتقادات، صراع بين جيله وجيل والديه وأساتذته يكرسه ما يتلقاه منهم من اللوم والتعنيف، بدل الحوار والطمأنة.
*الغربة: إذ لا يكاد يجد من يفهمه أو يحاوره، فالكل ينتقده ولا يصغي إلى أفكاره وتطلعاته.
*التمرد: كرد فعل طبيعي على تصرفات والديه والمحيطين به، ويزيد تمرده كلما زاد انتقاد والديه واستهزاؤهم بتصرفاته، فلكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه، كما هو معروف، ولهذا يطلب من الآباء ما أمكن، تفادي الانتقاد والتوجيه الدائم والدقيق، وبالمقابل، الاعتماد على التشجيع والتوجيه الإيجابي عند الطلب.
*العصبية وحدة الطبع: خاصة عند الذكور، بينما تميل الإناث للعزلة والاكتئاب، نتيجة نشاط هرموني مفرط في هذه المرحلة، بالإضافة إلى المؤثرات الاجتماعية.
*السلوك المزعج: نتيجة رغبة المراهق في إثبات ذاته وتحقيق مصالحه، ولو على حساب الغير(تصرفات مثيرة داخل المدرسة كالخروج أثناء الحصة أو التطاول على الأساتذة)
*حب التميز والتحرر: كتعبير عن الاستقلالية ورفض وصاية الولدين، بلباس الموضة مثلا وتسريحة الشعر والتحرر من قيود الأسرة والواجب المدرسي، كما يزيد من حب التميز لدى المراهق الميل الغريزي للجنس الآخر والعمل على إثارته بإظهار الأنوثة أو الذكورة.
كيف نتصرف؟
كيلا نفقد أبناءنا في هذا الملتقى الطرقي الصعب، بعدما حضنا عليهم كل هذه السنوات الفارطة، وهم اليوم أحوج إلى حضننا و حسن تصرفنا معهم. فيما يلي بعض الخطوات العملية لتجاوز هذه المرحلة بسلام:
*بناء العلاقة: هذه تكون منذ الطفولة، محبة خالصة حانية تجعل أبناءنا لا يفقدون ثقتهم بنا وبحدبنا عليهم وحرصنا على مصالحهم، ثم نحرص في هذه المرحلة على مبادلة المراهق هذه الثقة واحترامه، ومعاملته كشخص كامل، ربما غير راشد، لكنه كامل يحس ويفكر ويتصرف… وقد يخطئ.
*بناء الإطار التغييري: نحرص على عدم شحن المراهق بالنصائح المباشرة والدائمة، لكن نكسبه الثقة في نفسه وقدراته، فننقله بذلك من موقف المتأهب للدفاع عن نفسه وصد الهجمات النقدية للآخرين، إلى إطار يجعله يفكر في نفسه بجدية، ويقتنع بضرورة التغيير نحو الأفضل.
*إخراج طلب المساعدة الكامن بداخله:
حينما يقف على أخطائه ويوقن بضرورة التغيير، يطلب المساعدة ممن يثق بهم، فلنحرص أن نكون أول من يثق و يستنجد بهم أبناؤنا في حالة حاجتهم للمساعدة، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت العلاقة سليمة، والمنهاج التربوي واضحا في أذهاننا.
ختاما
يخط العلاقة السليمة والمنهاج التربوي الصحيح الأثر المنسوب لسيدنا عمر بن الخطاب: ((لاعب ابنك سبعا، وأدبه سبعا، وآخه سبعا، ثم ألق حبله على غاربه ))
بعد الملاعبة الحانية الرحيمة في الطفولة الأولى، والتأديب المسؤول في السبع الثانية، نكون في صحبة أبنائنا، أحوج ما يكونون إلى قربنا وحدبنا في هذه المرحلة الحرجة، إن فاتنا شيء من التأديب في وقته فلا نحملهم وزر تقصيرنا، والله عز وجل المستعان على صلاحهم.