“توقفت أصوات القصف في آذاننا، لم يرحمونا، بل وجدوا طريقة أعتى لتعذيبنا، اسمها التجويع”.
بهو فسيح وأنيق تتوسطه مائدة وضع عليها ما لذ وطاب من طعام وشراب، وأطباق أخرى ما زالت تنتقل بين أيادي السيدات قادمة لتوضع بجانب مثيلاتها.. تلتف النساء أخيرا حول المائدة، وتبدأ كل منهن باختيار ما شاءت من خيرات تأكلها، وتجلس مريم ذات العشر سنوات إلى جانب والدتها صاحبة الوليمة تخبرها من أي الأطباق تريد أن تأكل، وسط قهقهات سيدات العائلة وشكرهن صنيع يدي أم مريم.
“كنت قديما أستحضر هذه المشاهد كلما اشتقت إليك أمي، أما الآن فأنا آسفة بحق، لم أشتق الآن إلا لرغيف الخبز الذي كنت أرفض إكمال أكله في حضرة “المجدرة” و”المفتول”، آسفة لكل طبق طلبتِ مني فقط تذوقه، لكنني لم ألبّ طلبك لأنني كنت منهمكة في أكل السمبوسك، آسفة لأن ذكرى أطباقك الشهية أصبحت تسيطر على مخيلتي أكثر من ذكراك حبيبتي”.
كعادتها تعود من شرودها وهي تمسح أثر الدموع من جفنيها، سمعت صوت الصغيرة هالة تبكي، فدخلت الخيمة لترى ما يحدث.
– آسفة يا أختي مريم، لكني أتضور جوعا ولا أجد قطرة حليب تسد رمق الطفلة.
– لا عليك، لن أنس معروفك هذا يا عزيزتي سماح، سأذهب لأبحث عما أقايض به سترتي الصوفية.
– خذي هذا الخاتم أيضا عله يفيدك.
– كلا يا عزيزتي، خاتم زواجك سيظل في مكانه إلى أن نعرف مآل زوجك، ثم إنه لا يوجد في السوق شيء نقايض به أساسا.
– أتمنى أن يكون قد استشهد على أن يعاني ويلات الجوع مثلي.
“لم أجد ما أضيف بعد كلامها، فهذا حالنا جميعا، أصبحنا نفضل قنبلة تأخذ أرواحنا بغتة بدل أن نعد الأيام ونحن جوعى”.
ربما تتساءلون عن هالة وسماح؛ هالة طفلة ولدت من تحت الركام قبل بضعة أشهر، توفيت أمها وإخوانها جراء قصف أودى بعشرات الأرواح، بينما كتب الله لها عمرا جديدا لتتجرع لونا مختلفا من العذاب، هو الجوع، لكن رحمة الله وسعت كل شيء، فقد أرسل لنا سماح كملاك الرحمة، سيدة فقدت رضيعها في نفس القصف بعد أن غادرت بيتها بحثا عن طعام لأطفالها الأربعة، قدمت إلى المشفى لتودعهم آخر مرة في نفس لحظات إسعافنا للطفلة، فقبلتها بصدر رحب رغم جرحها الغائر، ووهبتها حليبها الذي كان من المفترض أن يشبع صغيرها الراحل، هكذا هي الحياة في غزة، تموت روح لتهب الحياة لأخرى.”
سارت بين الركام طويلا إلى أن وصلت إلى ما يفترض به أن يكون سوقا، مكتظ كما يجب أن يكون، بالناس فقط، لا وجود لما يمكن شراؤه، أو مقايضته إن صح القول.
كما اعتاد كل ممرض في غزة، ورغم توقف المشفى عن العمل بسبب نفاد الوقود، إلا أنها ما زالت تهتم بحياة الناس قبل الاهتمام بحياتها، فهي لا تفكر إلا فيما يمكن فعله لإنقاذ الأرواح التي تحملت مسؤوليتها. جلست خائرة القوى بجانب إحدى البسطات التي أصبحت فارغة إلا من حبات خضر متعفنة لا تصلح إلا لتكون سما بدل علاج الجوع.
“حبتان من البطاطا وحبة طماطم، ثلاثة أرباع الثمرة متعفن، لكن لا زال هناك شبه ربع صالح فيها، فكرت للحظة أن أضحي بسترتي البيضاء، لكن ما أوقفني هو بكاء سيدة خرجت من شارع جانبي، انتبهت لبكائها العنيف وهي تحمل بين يديها طفلا رضيعا مغمض العينين، ككل طفل في غزة تجلى أثر الجوع في عظامه البارزة، اقتربت منها لألاحظ أن الطفل لا يتنفس، وألاحظ أيضا علبة الحليب التي تحملها بإحدى يديها.”
-ذهبت لأحضر له ما يبقيه على قيد الحياة، وحين عدت وجدته قد فارقها.
فهمت كلمات السيدة بصعوبة بسبب شهقاتها المتواصلة، وهمهمات الناس المرتفعة الذين يبادلونها نفس الشعور، فلكل واحد منهم قصة مشابهة، ثم حملت مريم الطفل لتفحصه:
– لا إله إلا الله وإنا لله وإنا إليه راجعون، فعلا قد مات منذ ما يقارب النصف ساعة، أسأل الله أن يرزقك الصبر يا أختي.
– الحمد لله على عطائه وأخذه، لو لحقته الآن لمات غدا لنفس السبب، الحمد لله أنه لن يعاني يوما آخر بسبب الجوع.
حملته مرة أخرى ثم سألتني وهي تتأمل ملامحه:
– هل أنت أُم؟ أقصد هل لديك طفل جائع؟
– نعم، لست أما، لكني أعتني برضيعة استشهدت أمها.
– رحمات الله عليهم جميعا.
ناولتني الحليب ثم أكملت تقول:
– تفضلي فأنت في حاجته أكثر مني.
حاولت إعطاءها السترة مقابله لكنها رفضت قائلة:
– لتكن صدقة عن ابني وزوجي، ادع لهما كثيرا أرجوك، سأذهب لأدفن صغيري بجانب والده”
جلست تراقب سماح تسقي هالة ذاك الحليب بقلب حزين، لم ترغب يوما في أن تفرح لوفاة طفل لأن طفلا آخر سيعيش، ثم شردت تفكر في أخيها سيف.
“ترى كيف سيكون حاله الآن؟ هل سيكون جائعا مثلي؟ أم أنه مات ليترك فرصة الحياة لطفل آخر؟”
انتفضت عند آخر فكرة وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم شردت ثانية وهي تفكر من أين ستأتي بقوت الغد.