سنعيش في هذه اللحظات تحت ظلال حديث عظيم يجمع بين جوانبه معاني جليلة وإشارات نفيسة، اصطفيناه من بين أحاديث أخرى لنقف معه وقفة خاصة، نعيش خلالها لحظات ذلك العهد الزاهر، الذي كان يجلس فيه الصحابة الكرام إلى الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه يحثهم وينصحهم. ينقلها لنا صحابي جليل تشرف حين أكرمه الله بصحبة النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وفاز حين اختاره الله تعالى ليعيش في ذلك الزمن المبارك. نتركه يحكي لنا عن جلسة من جلساته الجميلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونستمع له وهو يصف ذلك المشهد ويقول:
“كنَّا عندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فجاءَ رجلٌ من أَهْلِ الباديةِ، عليهِ جبَّةٌ سيجانٍ مَزرورةٌ بالدِّيباجِ، فقالَ: ألا إنَّ صاحبَكُم هذا قد وضعَ كلَّ فارسٍ ابنِ فارسٍ قالَ: يريدُ أن يضعَ كلَّ فارسٍ ابنِ فارسٍ، ويرفعَ كلَّ راعٍ ابنِ راعٍ قالَ: فأخذَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بمجامعِ جبَّتِهِ، وقالَ: ألا أرى عليكَ لِباسَ من لا يعقلُ ثمَّ قالَ: إنَّ نبيَّ اللَّهِ نوحًا صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا حضرتهُ الوفاةُ قالَ لابنِهِ: إنِّي قاصٌّ عليكَ الوصيَّةَ: آمرُكَ باثنتينِ، وأنهاكَ عنِ اثنتينِ، آمرُكَ بلا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فإنَّ السَّمواتِ السَّبعَ، والأرضينَ السَّبعَ، لو وُضِعت في كفَّةٍ، ووُضِعت لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ في كفَّةٍ، رجَحت بِهِنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ولو أنَّ السَّمواتِ السَّبعَ، والأرضينَ السَّبعَ، كنَّ حلقةً مبهمةً، قصَمتهنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وسبحانَ اللَّهِ وبحمدِهِ، فإنَّها صلاةُ كلِّ شيءٍ، وبِها يرزقُ الخلقُ، وأنهاكَ عنِ الشِّركِ والكبرِ قالَ: قلتُ أو قيلَ يا رسولَ اللَّهِ: هذا الشِّركُ قد عَرفناهُ، فما الكِبرُ؟ قالَ: أن يَكونَ لأحدنا نعلانِ حَسنتانِ لَهُما شراكانِ حسَنانِ قالَ: لا قالَ: هوَ أن يَكونَ لأحدنا حلَّةٌ يلبسُها؟ قالَ: لا قالَ: الكِبرُ هوَ أن يَكونَ لأحدنا دابَّةٌ يركبُها؟ قالَ: لا قالَ: أفَهوَ أن يَكونَ لأحدِنا أصحابٌ يجلِسونَ إليهِ؟ قالَ: لا قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، فما الكِبرُ؟ قالَ: سفَهُ الحقِّ، وغَمصُ النَّاسِ”.
تخريجه
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (10-6583-7101) بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو، والبخاري في الأدب المفرد (81-80) ونقله الحافظ ابن كثيرفي التاريخ (1-191) قال: هذا إسناد صحيح. ورواه الطبراني ونقله الهيثمي في الزوائد (219-220) وزاد في رواية: “أوصيك بالتسبيح فإنها عبادة الخلق وبالتكبير…” رواه أحمد ورجاله ثقات ورواه البزار.
شرحه
“السيجان”: قال ابن الأثير: جمع ساج، وهو الطيلسان الأخضر، وقيل هو الطيلسان المقور، ينسج كذلك).
“مزرورة”: من الزر) وهو معروف.
“لا إله إلا الله”: هي الكلمة الطيبة، كلمة التقوى وأعلى شعبة من شعب الإيمان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل ما قلته أنا والنبييون من قبلي لا إله لا الله وحده لا شريك له” الحديث. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصا إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر” 1 .
قال الطيبي: وحديث آخر عن عبد الله بن عمر فيه: “لا إله إلا الله، ليس لها حجاب دون الله حتى تخلص إليه” الحديث. دل على تجاوزه من العرش حتى انتهى إلى الله تعالى. والمراد من ذلك سرعة القبول، والاجتناب من الكبائر شرط للسرعة لا لأجل الثواب والقبول، فلا إله إلا الله لا تزال صاعدة حتى تفضي إلى الله تعالى – قاله الحافظ-.
قلت: الأجر والثواب وتجديد الإيمان حاصل بقولها، لكن هذه مزية أخرى وفضيلة عظمى لهذه الكلمة.
قوله: “حلقة مبهمة” الأمر المبهم، الخفي الذي لا يستبين، ومن ذلك قوله “حائط مبهم” لا باب فيه. و”باب مبهم” مغلق لا يهتدي لفتحه إذا أغلق، وفي كلمة لابن مسعود: ثوابيت من حديد مبهمة عليهم) قال الأنباري: المبهمة التي لا أقفال عليها، يقال أمر مبهم إذا كان ملتبسا لا يعرف معناه ولا بابه) فهذا كله باب واحد، وهو يشبه قولهم حلقة مفرغة) أي مصمتة الجوانب غير مقطوعة.
“فصمتهن” بالفاء وهو الثابت في تاريخ ابن كثير. وفي الزوائد والأدب المفرد بالقاف والمعنى في الحرفين مقارب، والفاء في هذا أجود. فالفصم: الكسر من غير بينونة، قالوا “خلخال أفصم” وفي وصف الجنة “درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم” انظر اللسان (10-301).
قلت: هذا يبين عظمة هذه الكلمة وقوتها، فهي إذا دخلت على الإيمان جددته، وإذا دخلت على نفس مريضة عالجتها، وإذا دخلت على أمة فاسدة أصلحتها، وكذلك إذا دخلت كثيرا من الأمور غير هذه غيرتها وما أعجزتها ولا غلبتها.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يجاء برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مثل مد البصر، فيقال له تنكر شيئا من هذا؟ أظلمك الحافظون؟ فيقول لا يا رب، فيقال: ألك عذر؟ فيقول: لا يارب، فيقال: إن لك عندنا وديعة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لاإله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله. فيقول يارب ماهذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله: لا ظلم اليوم، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء” 2 .
أضف إلى هذا أن لا إله إلا الله موجبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: “قلت للنبي صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصة من قبل نفسه”” 3 .
“سبحان الله وبحمده”: صلاة كل شيء، وعبادة الخلق، حتى الجمادات والحيوانات، والجن والإنس والملائكة. يقول الله تعالى: تسبح له السماوات والسبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء 44).
كل شيء مخلوق -علمناه أو لم نعلمه- يقول سبحان الله، ولكننا لا نفقه تسبيحهم. ومعنى “سبحان الله وبحمده”. سبحان: هو مصدر سبح يسبح تسبيحا وسبحانا مثل كفر اليمين تكفيرا وكفرانا، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص، قاله الشوكاني. وقد ثبت في الصحيح عن أنس أنه قال: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح، فصبهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في أيدينا فما سبحن في أيدينا”.
وما ثبت عن عبد الله بن مسعود، قال: “إنكم تعدون الآيات عذابا وإن كنا نعدها على عهد رسول الله صلى لله عليه وسلم بركة، لقد كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام”.
فالتسبيح عبادة مشتركة بين جميع مخلوقات الله تعالى، وهو من أفضل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك ما ثبت عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال: “ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده”.
وعنه في رواية أخرى أنه قال: “”ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟” قلت يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله، فقال: “إن أحب الكلام إلى الله، سبحان الله وبحمده”” 4 .
قال النووي: هذا محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أ فضل، وقراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق، فأما المأثور في وقت أوحال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل والله أعلم).
ونختم الكلام على فضائل التسبيح بهذا الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من قال سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر”. فبذكرها يتحصل ا لثواب الجزيل المناسب لها، كما أن من ليست عليه خطايا فإنه يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك.
قال ابن بطال: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأمل الشرف في الدين والكمال كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام فلا تظنن أن من أدمن ا لذكر، وأصر على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، أنه يلتحق بالطاهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح) 5 .
قوله: “سفه الحق” فعل ماض مع مفعوله، وهو هنا مصدر مضاف إلى الحق. قال ابن الأثير: وفيه وجهان: أحدهما أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل وكأن الأصل: سفه على الحق، والثاني أن يضمن معنى فعل متعد كجهل. والمعنى الاستخفاف بالحق وأن يراه على ما هو عليه من الرجحان والرزانة).
كما حدث لهذا الأعرابي حين عرض بالصحابة رضوان الله عليهم في كلامه بأنهم رعاة ولا يستحقون أن يرفعوا إلى أي منزلة، فقد اضطربت عنده الموازين واختلطت عليه الأمور حين صور له فهمه أن المستحق للرفعة والمنزلة هو من لبس أحسن الثياب وركب أسرع الجياد وتكبر على العباد.
قوله: “غمص الناس” بالصاد، وهو احتقارهم وأن لايراهم شيئا. وفي رواية: “غمط الناس” بالطاء، قال الزمخشري في الفائق (1-598) والغمز والغمص والغمط أخوات في معنى العيب والازدراء).
والشرك والكبر أمران مرفوضان مبغوضان، لا يرضاهما الله ولا يحبهما لعباده، فهما مفسدان للقلوب والطبائع والنفوس البشرية ومتناقضان مع الحكمة الإلهية، من هنا وجب التنبيه على خطرهما والتنفير والنهي عن التخلق بهما.
خاتمة
لا شك أن هذا الحديث العظيم فيه من الفوائد غير ما تقدم، لكن التركيز كان على أهم ما كان فيه من نفائس وإشارات وفرائد.
هذا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لذكره وشكره وحسن عبادته.