كان يا ما كان في سالف الأيام وحاضر الزمان بلد إسمها الشام… يسكنها أسد جوعان وبطل إسمه نبهان.
وكان في الأسد الجوعان موهبة عجيبة في ذبح الخرفان توارثها جيلا بعد جيل من أبيه الأسد الفنيان… وكان من سلالة طينة فرعونية يحكم بثلاثة أساليب… الفناء البطيء، المكر، القتل والتخريب. وحتى لا تفوتني الإشارة فهو ليس من سلالة الأسود… عفوا إنه من سلالة الكلاب الوحشية.
أما نبهان فما أدراك ما نبهان فتى من الشجعان خرج أبوه في إحدى معارك المصير ولم يعد… وظل نبهان يحفظ وصية أبيه : “الولد سر أبيه.”
نبهان له تاريخ مجد أصيل… كله نخوة وشهامة ورجولة.
نبهان ينتمي لأمة كانت قوية… لها فرسان نخوة وغيرة وحمية… ضاع فيها كل شىء ولم يبق منها سوى البطاقة والهوية… وشعوب تعشق الربيع والحرية.
وظل نبهان يغني فوق تلال ضيعته في الصباح والرواح قول الشاعر :
أتحنـــــو عليك قلوب الورى
إذا دمع عينيك يوما جـرىوهل ترحم الحمل المستضام
ذئاب الفلا أو أسود الشرىإذا كنت ترجو كبار الأمــور
فأعدد لها همة أكبــــــــــراطـريـــق العـلا أبـدا للأمـــام
فويحك هل ترجع القهقـرىوكل البرية في يقظــــــــــــة
فويل لمن يستطيب الكـرى.
كان نبهان يحفظ جوامع الكلم… “النار والإعصار”… “لا نامت أعين الجبناء”… “لن تتعلم حتى تتألم”… “من علت همته طال همه”… وكان عشقه أن يحول الليمون الحامض شرابا حلوا سائغا للشاربين.
كره نبهان العتمة والغروب والظلام… كان يعشق الصبح الندي وإشراقة الأفق البعيد… كان عظيما في عظمة المبدإ الذي ينتصر له وقويا في قوة الإيمان الذي يجاهد به.
وفي يوم من الأيام هجم الأسد الجوعان… عفوا الكلب السعران أكل الخرفان… أتلف الزرع… دمر البيوت… أفسد ماء الوديان.
غضب نبهان… انتفض نبهان… عشق الحرية وخرير نبع الماء الصافي والجدول والساقية… لبس ثوبا مكتوب عليه… “هذا كفني من أجل بلدي”… حمل بندقيته وخرج يصارع دون حقه ويغني بصوته الندي…
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة
إن الجلوس مع العيال قبيح
وفي عينيه نار… وفي قلبه نار تشتعل كالبركان وهو ينظر أجساد إخوانه تتشطح في الدماء… وانطلق يزمجر كالبركان ليقتل الجبان… يا أسفاه انصبّ عليه المدفع الرشاش وسقط البطل نبهان وهو يغني في حزن دفين…
جنة جنة جنة
والله يا وطنا
يا وطن يا حبيِّب
يا بو التراب الطيب
حتى نارك جنة
حتى نارك جنة.
وسال دمه الشامي يعانق ترب ضيعته ويخط فوق أرضها رسالته الخالدة…
هذا وحده الطريق… ومن لم يوقف النزيف فهو في دماء وطني غريق… ومن لم يكمل الطريق ستكبله حبال الذل ليباع في سوق النخاسة والرقيق.
ولا شيء يجعلنا أكثر صمتا كخيبة الأمل… ولا شيء يجعلنا كبارا كالمحنة والألم.