بذكر الله تطمئن القلوب وبذكر الصالحين تتنزل الرحمات وبذكر الموت تتعظ النفوس، وبالذكر والتذكر والمذاكرة تحيى الأرواح. ولا تنتهي حاجة المؤمن والمؤمنة لما يحيي قلبهما و ينور بنور الإيمان واليقين سريرتهما إلا بانقضاء الأجل واختتام العمل، إلا بالموت و”كفى بالموت واعظا”.
في كتاب الله تعالى ثلاث كليات كبرى تذكرنا بحقيقة الحياة وتحذرنا من خطر “الفوت”، توقظ فينا الشعور بفراق الأهل والأولاد وتقمع فينا الركون إلى المتاع والملاذ، و تحفزنا على المسارعة والاستباق.
الكلية الأولى: يقول الحق جل وعلا: كل من عليها فان وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (الرحمن، 27)، كل من على البسيطة سيسافر قريبا سفرا بعيدا، سيغادر الدنيا بأشيائها وما فيها، وسيتألم من فراقها إن كان متعلقا بها، سيفنى سمته وصوته، ويبيد أجله وأمله، كأن لم يكن. وجود من عدم، وفناء بعد وجود، وحياة بعد فناء، كان الإنسان في العدم، قال الله جل وعلا: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (الإنسان، 1)، ثم طرأ على الوجود ضيفا مسرعا خطاه إلى اللقاء.
يفنى الكون كاملا ويزول أثره، بحضاراته وحداثاته ودوله وصناعاته وعلاقاته وجميع أشيائه، وتنقلب السماء مهلا والجبال عهنا… في يوم من أيام الله، يوم يجعل الله فيه الولدان شيبا، يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، يوم يسكر فيه الناس ويتلفون، تبدل الأرض غير الأرض والسماوات… يوم الجزاء… يوم التناد… يوم التلاق… يوم يفر فيه المرء فرارا من أهله أجمعين…
ويبقى الخالق عز وجل ذو الجلال والإكرام الذي قهر الخلق بالموت وكسر كبرياءهم وأنانيتهم، وقال: الملك اليوم لله الواحد القهار… لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب، لا ملك إلا الله.
اللهم “ألهمني ذكرك على كل حال، وذكر الموت في كل حين” كما كان يقول سيدنا عمر رضي الله عنه.
والكلية الثانية: في قوله سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (الآية 57) وفي سورة الأنبياء: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (الآية 35)، فكل نفس على حدة ستذوق حرارة الموت و تشرب مرارته، وتعالج سكراته وتتألم وتحتضر، لا بد، حكم الله ماض، سبق في علمه ما سبق. روى الإمام البخاري رحمه الله عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات” ورواه أيضا الإمام أحمد رحمه الله.
انظر إلى حكمة الله في خلقه، حكمته في الإنسان وهو يسافر عريانا متألما من عالم إلى عالم، من عالم الصلب والترائب عريانا إلى عالم الرحم، ومن عالم الرحم عريانا إلى عالم الدنيا، ومن عالم الدنيا عريانا إلى عالم القبر، ومن ثم عريانا إلى عالم الآخرة، والآخرة خير وأبقى.
لكن ليس الموت وكفى، إنما ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ الرجوع إلى الله لتنظر كل نفس ما كسبت في دار الإبتلاء، فنحن عبيد لله قهرا و كرها وينبغي أن نكون عبادا للرحمن طوعا ومحبة، وليس فاصل الموت نهاية وإنما هو لحظة انتقال إلى جزء من عمرنا في عالم الجزاء، لنُسأل عن سعينا فيما إذا كان في ميراث النبوة أم في الخوض مع الخائضين؟
الكلية الثالثة: قوله جل وعلا في سورة القصص: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فإن كانت الموت آتية لا محالة والرجعى إلى الله يقين لا يتزعزع فإن العبرة في ألا تدعو مع الله أحدا، لا تدعو معه دنيا بزينتها ولا مخلوقا بما في يده، تشتغل بطاعته عن معصيته، وتقف عند أمره ونهيه، تدور مع كتابه حيث دار، تتقرب إليه بالفرض والنفل وتتعرض لنفحاته في دهره حتى يحبك، وإذا أحبك فطوبى لك. اللهم ارزقنا حبك.
كل شيء هالك إلا وجهه، فلا شيء يستحق أن يُطلب ويُعمل من أجله إلا الله، إلا هو سبحانه. وما دونه بهرج زائل وسراب باطل… إلا وجهه، تذكير لإعداد الزاد وبناء الرجال وإصلاح الأمة وتمتين الصلة بالله رب العالمين.
ذكر الصاحب الصِّديق رضي الله عنه عند ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: “كان واللّه بالمسلم حفيا، وعلى الكافر قسيا، وعن اللذة سليا، يتواضع حيث لا توهن نصرته، ويعلو حين لا تخاف سطوته، القرآن قائده، الموت إمامه، لأن الأمر بين عينيه، وعاقبته بين يديه، رحمه اللّه وأحسن عنا مجازاته”. (من بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر رحمه الله).
لا ينسى الموت ولا يكرهها، لكنه قائم بالقسط شاهد لله، يعمل الصالحات ويسعى بالخير بين الناس، لا يحرص على الحياة الدنيا ولكنه لا يزهد في نصيبه منها إلى الآخرة، وانظر إلى حالنا اليوم كم نحرص باطلا على الحياة ونكره حقا الموت، فكيف تتحقق فينا صفة الاستخلاف؟
فحرص اليهود على حياة زائلة وتافهة (لعصيانهم وقتلهم أهل الحق) جعلهم يقعون تحث غضب الله تعالى وتبكيته وسخطه. يقول الله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يُعَمر ألف سنة (سورة البقرة، الآية: 96).
كراهية الموت: أخس ما في نفوسنا المريضة هو كراهية الموت. بل هو المرض والوبال والكارثة. وقد شخص لنا المرض والعلاج رسول الله المصطفى -معلمنا وحبيبنا وطبيبنا- صلى الله عليه وسلم، بقوله: “يوشك الأمم أن تتداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”. فقال قائل: “أوَمِن قلةٍ نحن يومئذ؟” قال: “بل أنتم يومئذ كثير. ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم. وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن”. فقال قائل: “يا رسول الله! وما الوَهْن!” قال: “حُب الدنيا وكراهة الموت!”. روى أبو داود وابن عساكر بسند صحيح عن ثوبان.
على حب الله ورسوله تربى الصحب الكرام وعلى حب الشهادة، لا على حب المناصب أو على الاستقالة والجبن. صنعوا الحياة الطيبة والتاريخ العطر والموت المجيد. فاستحقوا تسمية الجيل الفريد. كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الملك رُستم: “جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة”. فارق لا يقاس بين من يحب الموت مقبلا عل الله في يومه وليلته وبين من يكرهها منغمسا في الملذات.
وأخيرا نستوصي بوصية سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه: “إنه لابد لك من نصيبك في الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا فتنظمه”.
والحمد لله رب العالمين.