كانت لطيفة تتنفس كل صباح كما لو أنها تستقبل قدرا جديدا. لا تفيق على أصوات منبهات ولا على ضجيج شوارع، بل على شعور خفي بأن هذا اليوم أيضا سيختبر قدرتها على الصبر. لم تكن من ذلك النوع الذي يضج بالشكوى أو يفيض بالتذمر في وجه الدنيا، بل كانت تضع آلامها في أعلى الرفوف وتتابع المسير المبارك.
لطيفة شابة في مقتبل العمر، معتدلة القوام، جميلة المظهر، صافية المخبر، رفيعة الخلق، عالية الهمة، نشيطة لا تعرف الاتكاء، كأنما تربت على أن تكون معطاءة على الدوام، مسؤولة بكل التزام، ولكن الطريق إلى هذا الصفاء لم يكن دائما مفروشا بالورود.
في سنواتها الأولى باغتها مرض عضال، مرض لم يكن من النوع الذي يمر كيسير الزكام، بل من ذلك الذي يهدد أن يفصل الإنسان عن أحلامه ويقطعه عن الحياة وكل آماله. كانت تزور المستشفى أكثر مما تزور الحدائق، وتحفظ رائحة المعقمات أكثر مما تحفظ عطر الصديقات. رأتها أمها ذات مساء تتألم صامتة، فسألتها متأوهة: “واكبداه، أتتألمين؟”. أجابت بيقين وكأنها تعلمته منذ المهد، أو رضعته من ثدي أمها المكافحة: “أتألم، لكنني لست مهزومة”. من يومها فهم البيت كله أن هذه الفتاة لا تنكسر بسهولة، فهي أشد صلابة من الحديد، وتعلموا الدرس الذي لا ينسى؛ أنّ الليالي لا تدع أحدا بلا امتحان، ولا تمضي الأعمار بغير برهان، وحسب الصادق أن يكون مثل لطيفة، لم تقل: لِمَ أنا؟ بل قالت: ثم ماذا؟ ولم ترفع شكواها إلى الخلق، بل رفعتها إلى الخالق، ولم تنزل دمعتها على الأكتاف، بل أنزلتها على الأكف في أوقات الضراعة والتبتل للواحد الشافي الدائم الذي لا يموت.
أدركت لطيفة باكرا أن الله إذا ابتلى فتح، وأنه ما أنزل من داء إلا أنزل معه الدواء، وأن القدر لا يضرب بعصوين، وأن العسر مهما طال يعقبه اليسر، وأن للفرج مواعيد لا تتخلف. تمسكت بهذه القناعات كما يتمسك الغريق بلوح نجاة. ثم جاء التقدم الطبي في وقته، وتوافقت حالتها مع علاج حديث، واستجاب جسدها بشكل مدهش لما أبدعته عقول الباحثين، فكأن الحياة أعيد ضخها في عروقها من جديد، فنهضت نهضة من أفاق من سبات، وعادت إلى مدارج حياتها كما يعود طائر بلّله المطر ثم جفّفه النسيم.
لكن المرض لم يكن امتحانها الأكبر.
فقد واصلت تعليمها بتؤدة وإصرار، همة لا تعرف الانكسار، مهما ارتفعت النتوءات وكثرت العقبات، حينما انشغلت كثيرات من قريناتها بسطحية ما يعرضه العصر من لهو وضجيج ومتابعات فارغة. لم تكن تنكر عليهن، لكنها كانت تعرف أنها تريد شيئا أبعد من صور عابرة وتعليقات زائلة. كانت تريد علما ينفع، وعفة ترفع، ومكانة تستحق، وأثرا يبقى، لم تفتنها شاشات العابرين، ولا قهرها عدد المتابعين، ولا اختُطفت ببهرج ما تضخه منصات العولمة من صور بلا جوهر. كانت ترى العلم ميراث النبوة فاختارته وتركت ما سواه، حتى تخرجت بميزة الشرف، كأن الشرف تعرف عليها فسجّل اسمه إلى جوارها.
كان ذلك اعترافا من المؤسسة التعليمية بجهدها، مكسب طربت له روحها الشفافة ونشطت به جوارحها التي لا تعرف الانهزام. إن الأبواب ستفتح بعدها على مصاريعها. فهل ينال الحظوة إلا كل مجتهد؟ هكذا كانت تقول، لكنها لما طرقت باب التوظيف، حسبته بابا واحدا، فوجدته أبوابا كثيرة، لا تفتح للمستحق بقدر ما تفتح للمدعوم، ولا تنظر إلى الرصيد المعرفي بقدر ما تحدّق في الرصيد البنكي. رأت مجالا يقدّم الجاه على الجهد، والنسب على النصب، والوجاهة على الاستحقاق. رأت أوراقا تمشي بلا كفاءة، وأشخاصا يصعدون بلا مؤهلات، وملفات تدفن لأن أصحابها لا ظهر لهم ولا ظهير.
تجمدت روحها أمام ما تنشره وسائل الإعلام من ادعاءات زائفة عن الاستحقاق على قدم المساواة من غير اعتبار للون أو جنس أو منبت اجتماعي، لكن هيهات هيهات لما يعج به واقع التوظيف من مخالفات ومتناقضات، اكتشفته فاكتشفت معه وجها آخر للواقع؛ رأت وجها لا يتحدث بلغة الكفاءة، بل بلغة غريبة: من يعرف من؟ ومن يملك ماذا؟ ومن ابن من؟ مال وفير، جاه كبير ونفوذ لا يقهر.
كان هذا العالم ينتقي موظفيه على غير ما نشأت عليه. كانت ترى بأم عينها كيف يقدم صاحب الجاه على صاحب العلم، وكيف يقال لفتاة لم تكد تنهي دراستها أن منصبا حساسا في انتظارها لأن أباها معروف، بينما تنتظر هي في طابور المعطلين لأنها لا تملك إلا شهادتها. كانت ترى الرشوة تدور في الظل، والولاءات تعقد في الممرات، والوظائف تتوزع بغير ميزان، وأحيانا كانت تسمع همسا: “الأيام لا تمشي بالاستحقاق، بل بالجاه الأصيل والمال الوفير”.
هنا تحديدا بدأت عقدة جديدة من قصة لطيفة.
عرض عليها أكثر من مرة أن “تسهل” الأمور، أن تمر عبر شخص “يعرف”، وأن تهادن قليلا “إلى أن تثبِت نفسها”، لم يكن أحد يطلب منها فسادا صريحا، بل تنازلا صغيرا، خطوة واحدة في منطقة رمادية. لكن لطيفة كانت تدرك أن أول خطوة في الظل تجر إلى الثانية حتى تجد نفسها في خضم الابتذال والسفه، ولطالما كانت تردد في داخلها: “إذا كنت اليوم أقبل ظلما لي، فسأقبل غدا ظلما على غيري”، فترفض على الدوام العروض الفاسدة والصفقات الزائفة، وإن كان ثمن رفضها بقاؤها في الهامش.
مرت أشهر ثقيلة بائسة، رأت فيها من هن أقل منها علما يسبقنها، ويجلسن في مكاتب واسعة، ويستقبلن وفودا، بينما هي تواصل بعناد إرسال ملفاتها لعلها تقبل، وتذهب إلى مقابلات لا ينتهي أغلبها إلى شيء. لم تغبنها الأنوثة، بل غبنها الفساد، ولم تضيعها الكفاءة، بل ضيعتها المحسوبية والارتشاء. لكن اليقين لا يموت.
في ليلة شتوية باردة، كانت تراجع سيرتها الذاتية للمرة العاشرة، أحست بذلك الوخز القديم الذي تمليه بين الفينة والأخرى النفس الضعيفة الأمارة بالسوء: “هل أضعت سنواتي من أجل عالم لا يعترف بالجهد؟”.
كان اليأس واقفا على الباب، لكن إيمانها المتجدد بسر الذكر وروح التوكل يقف له بالمرصاد. هل أنسى أيام المرض والألم؟ ألم يقَل لي أن حالتي أقرب إلى المستحيل؟ ألم أخبر يومها أن حالتي قد تطول، فلم تطل. لملمت نفسها الشاردة وعزمت: “كيف يضيع السعي عند رب حكيم؟”.
أعرضت عن مداخل الملتوين، وآثرت مقاعد المنتظرين، وظلت ترسل ملفاتها كما يرسل المزارع ماءه إلى أرضه، واثقة أن الأرض التي ترفض الغيث لا ترفض ما يليه. وطال عليها الانتظار، حتى خُيّل لبعض من حولها أن الدنيا لا تعطي العفيفات، وأن الساحات لا تتسع للشريفات. لكنها كانت تقول: “لو كان الرزق بيد الناس لضاع، ولكنه بيد من لا يضيّع”.
في صباح لاحق، صدر إعلان داخلي عن منصب يحتاج إلى مؤهلاتها تحديدا. كان المنصب حساسا ويتطلب شخصا نزيها، لأن الجهة المانحة كانت تراقب، دخلت المنافسة بشجاعة، ولأن المعايير هذه المرة كانت مضبوطة لمصلحة المؤسسة لا لمصلحة الأشخاص، برزت سيرتها، وعرف الجميع أن أمامهم جبلا راسيا من العلم والخبرة والأمانة، أن أمامهم اسما لا علاقة له بالضوضاء بل بالعطاء، ففازت بالمنصب عن جدارة واستحقاق.
لم يكن ذلك مجرد وظيفة؛ كان تصويبا لمسار. كان إشارة خفية تقول لها: “لم تخطئي حين لم تتنازلي”، وكان دليلا على أن من يختار الطريق النظيف قد يتأخر، لكنه أبدا لا يسقط وبالضرورة يصل، عطاء من الله الوهاب الكريم.
منذ ذلك اليوم ازدادت لطيفة تأثيرا وإصرارا، فهي دائمة الحركية داخل أسرتها، والفاعلية في حيها، تنخرط في كل خير، وتساند الأحباب والجيران، مميزة في وسطها المهني والاجتماعي، من يتعرف إليها يطلب قربها لا لأنها نافذة، بل لأنها صادقة.
والأهم من كل ذلك أنها لم تشغلها المكاسب عن المطالب والهموم، فنصبت نفسها على الدوام خادمة صادقة لمحيطها الذي يعج بالمتناقضات، تنصح، توجه، تواسي، وتساعد بلا انقطاع؛ لم تكن من أولئك الذين إذا أمنوا على راتب وكرسي، انصرفوا عن قضايا الناس. كانت تتابع الشأن العام، تقرأ تحولات الاقتصاد، تراقب تلوّنات السياسة، وتكتب كلما رأت أن الكتابة شهادة، وكانت تقول: “العلم إذا بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة، وزكاته بذله”؛ كانت زكاتها رأيا سديدا، وتدوينا واعيا، وتكوينا جيدا لكل من يحتاج، ويدا مواسية لا تتخلف عن العطاء، وقلبا شاكرا لأن بالشكر تزيد النعم.
هكذا كانت لطيفة؛ فتاة جربت المرض فلم تنكسر، وجربت الظلم فلم تتلوث، وجربت التأخر فلم تتراجع؛ لم تصنع بطولتها من ضجيج، بل من صبر وحصافة ويقين بأن الخير لا يضيع عند الله الكريم.
هذه لطيفة اللطيفة الظريفة، من عرفها أحبها، ومن عاشرها اطمأن إليها، ومن سمع قصتها علم أن الابتلاء ليس نهاية الطريق، وأن النقاء وإن تأخر ظهوره، يفرض نفسه إذا حضر، وأن الله في علاه، لا يضيع على امرئ وقفته النظيفة أمام طاحونة الفساد المستشري، وأن وقف سيوله العارمة لا تكون بالتمني، بل بالوقوف الصامد ضده والتحلي بالقيم الثابتة التي لا تقبل التبديل ولا التحويل.