“لله جنود من العسل”

Cover Image for “لله جنود من العسل”
نشر بتاريخ

في حلكة التكالب على طهر هذا الدين أوقفني هذا المثل لتعلم العبرة والموعظة من عجائب قدرة الله بالفرج حين تضيق الأرض بأنصار الحق.

مثل لصيق بمعركة عظيمة من تاريخ البطولة في زمن الفاروق عمر بن الخطاب، نعم هو، هو عمر الذي أحس بالغبن وإعطاء الدنية في دينه وقت صلح الحديبية حتى قال له سيدنا أبو بكر رضي الله عنه “فاستمسك بغرزه حتى تموت”.

من وقتها تعلم الفاروق من المصطفى صلى الله عليه وسلم أن هناك أحداثا يلزمنا في زمانها المرونة والصبر.

ولعل الواقف على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالواقف أيضا على سيرة أصحابه رضوان الله عليهم فهي جزء لا يتجزأ من تربيته.

في عهد عمر رضي الله عنه دارت أحداث معركة قوية ضد أصلب قوة ظالمة في زمانه: هي معركة نهاوند.

معركة تستهوي الاطلاع على دقيق تفاصيلها لما فيها من قوة تخطيط وتنفيذ، وقد شارك فيها عدد كبير من عمالقة الصحابة.

موقعة عظيمة يفتتحها رجل بهمة عالية ودرس بليغ، ليختتمها رجل آخر أشد عزما ومضاء وبموعظة بليغة أيضا، أثاروا فضولي في المشاركة والتقاسم.

نقف على الحدث كما ذكر في كتب التاريخ: البداية والنهاية لابن كثير،ج/السابع، مع  بعض التصرف حتى نتجنب الإطالة: “اجتمع المسلمون حول نهاوند، واجتمع الفرس فيها وأميرهم “الفيرزان”. أرسل أحد قواد الفرس واسمه “بندار” إلى جيش المسلمين: أن أرسلوا إلينا رجلًا نكلمه، فذهب إليهم داهية المسلمين “المغيرة بن شعبة.

دخل المغيرة، فقرّبوا إلى جسمه ووجهه الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، وجند “بندار” حوله، كي يزيدوا المنظر رهبة، فانتهره الجند وقالوا: اجلس. فجلس فتكلم “بندار” وتُرجم للمغيرة، ومما قاله: إنكم معشر العرب أبعد الناس من كل خير، وأطول الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاءً، وأقذر الناس قذرًا، وأبعدهم دارًا، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشّاب إلا تنجُّسًا لجيفكم. فإنكم أرجاس، فإن تذهبوا تركناكم، وإن تأتوا نريكم مصارعكم”.

وصف دقيق يشبه صورتنا عند الغالبين بالقهر والظلم.

وسبحان الله لغة المستكبر أيضا واحدة، ولونه واحد، حتى وإن اختلف الزمن فالمستكبرون يتشابهون في البرود الإنساني الظالم والجاف.

لكن الحرب زبون كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه (زبون: يعني بمثل زبون التجارة تحتاج لمن يغالب ويدافع) ولا يصلح لها إلا الرجل المكيث: أي الذي يزن الأمور أوزانها، ذو النفس الطويل الذي لا يتسرع.

“قال المغيرة: فحمدت الله، وأثنيت عليه، ثم قلت: والله ما أخطأت من صفتنا شيئًا ولا من نعتنا، إن كنا لأبعد الناس دارًا، وأشد الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير، حتى بعث الله – عز وجل – إلينا رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فوالله ما زلنا نتعرف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتح والنصر، حتى أتيناكم، وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نُقتل بأرضكم، وإني أرى عليكم بِزّةً وهيئة ما أرى مَن خلفي يذهبون حتى يصيبوها”.

وقد صدق حين قال.

 وانتصروا لأنهم كانوا يحملون رسالة عظيمة حين ساروا على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسدها عمل تتناسق فيه وتتناغم حركة القلب مع حركة العقل مع حركة الجسد.

“شعبة بن المغيرة” رجل في موقف صعب يعلمنا الفرق الكبير بين فرد بنى أمره على أن أمة تحمله، فهو يعيش بأضعف ما فيه، وفرد قد وضع الأمر على أنه هو يحمل أمة فلا يدع في نفسه قوة إلا ضاعفها.

ويعلمنا أيضا أن هناك وجهين من وجوه التربية السياسية؛ وجه تعرفه بالطنطنة والتهويل والصراخ، والوجه الآخر تعرفه بالهدوء الذي يقهر الحوادث، والصبر الذي يغلب الزمن، والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره أن يقوم بها.

الفراغ الذاتي والمرض التقليدي الموروث عندنا أبعدانا عن الروح العالية التي يغذيها الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

نحتاج إلى تصفية القلب، من هذه التصفية بدأ اجتهاد الصحابة وجهد العمالقة.

أما الموقف الثاني فهو موقف القعقاع بن عمرو التميمي الذي لاحق الهاربين بعد هزيمتهم وعلى رأسهم الفيرزان قائد الفرس فأدركهم في واد ضيق فيه قافلة كبيرة من بغال وحمير محملة عسلا ذاهبة إلى كسرى.

قدر من الله وتدبير ألزم الفارين النزول عن خيولهم السريعة والهروب مشيا على الأقدام مما ساعد القعقاع على الظفر بهم وقتل قائدهم.

فقال الصحابة رضوان الله عليهم بعدها: “إن لله جنودا من العسل”.

موعظة بليغة مفادها أن القدر يرسل لك أحيانا، بعد أن تستفرغ الجهد في التخطيط والحنكة في القتال واختيار الوقت المناسب واستفراغ الجهد والحيلة، أحداثا ترى فيها الضيق ولكن بين طياتها الفرج والنصر القريب.

من الخلل العميق في العقل المسلم الذي غزته ثقافة الغالب، قراءته للتاريخ ونظرته للمستقبل من وجهة نظر مادية، هذا ما صنع بنا الفكر الغافل عن الله وعن سنة الله في الكون.

ولعل المتتبع اليوم للأحداث المتتالية والحرب المسعورة ضد الإسلام والمسلمين، تجعل الكثير من المظلومين يسقطون في فخاخ اليأس والخوف من المجهول حتى يقول القائل منهم “متى نصر الله؟!”.

 قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت.. أي مخاض هذا وأية هزة!..

“وإن لله جنودا من العسل” فمن يدري ما يخبئه القدر من وراء كل هذه العتمة من البلاء والضيق، ففي كل عقدة من عقد التاريخ البشري هناك سنة الله الكونية “البلاء”، امتحان يختبرنا الله سبحانه فيه، لعلنا ننتفض من حول إلى حول لنبني لنا جسدا قويا نسند ظهرنا فيه إلى الحق لا معلقين آمالنا بأحلام معسولة، فمن طفولة الشعوب، بل من هرف الشيخوخة المريضة أن يعبد البطل الوثن المتعالي في أعشاش الظلم الفاحش.

فقد آن أن نعبد الله وحده ونغسل وصمة الهزائم في طهور توبة عامة.

فمتى صلح المسلمون لوراثة الأرض فسنة الله وعد غير مخلوف.

حينها يفتح لنا القدر جنودا من العسل.