استدعت “إسرائيل” حتى الآن أكثر من 350 ألف جندي احتياطي للهجوم البري. بدأوا الاندفاع نحو الحدود مع قطاع غزة من أجل تدمير حركة حماس وفق تصريحات العسكريين والسياسيين الإسرائيليين بدعم أمريكي ميداني غير مسبوق، هذه المعركة بدت قاسية ومارس فيها الاحتلال كل ما يستطيع من قتل وتدمير وتخريب للمنشآت المدنية والطبية والتعليمية مع تسجيل قطع إمدادات الماء والكهرباء والغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية عن قطاع غزة كلها، وتقف خلفه قوى الغرب بكل وضوح، لكن ذلك لا يعني أبدا أنه سيكون قادرا على تحقيق أهدافه أو كسر شوكة الفلسطينيين ومقاومتهم. لماذا؟
جرب الفلسطينيون كل الخيارات الممكنة منذ النكبة سنة 1948 من خيار الحروب الأولى إلى خيار التهجير والشتات إلى خيار البقاء و”الاندماج” في أراضي 1948 إلى خيار المفاوضات التي دشنت بتوقيع اتفاقية أوسلو، وهكذا ودون الخوض في الحروب السابقة سأكتفي بالحديث عن مرحلة ما بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في سياق الحديث عن اتفاقية أوسلو، فقد آمن الفلسطينيون بالبندقية والسلاح كخيار وحيد للخلاص والتحرير؛ فتأسست منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 وخاضت مجموعة معارك ضد المحتل منها معركة الكرامة سنة 1968 لكنها تكبدت خسائر جسيمة في ما يسمى بأحداث أيلول الأسود سنة 1970… ثم جاءت حرب أكتوبر 1973 كآخر حرب شنها العرب متكتلين ضد الكيان الصهيوني ستعقبها مفاوضات مع الجانب المصري .
وفي سنة 1978 سعى ياسر عرفات للقيام بمفاوضات بتنسيق نرويجي مع “إسرائيل” لم تلتفت لها “إسرائيل” لانشغالها بمحاولتها ترويض الجانب المصري وتدبير النزاع مع أكبر خطر محدق بالكيان الصهيوني في إطار خطة جديدة وهي اتفاقية كامب ديفيد، في رؤية استراتيجية محسوبة رأت أنه بتوقيعها اتفاقية السلام سترتاح “إسرائيل” من الثقل الأكبر من هذا الصراع والذي يشكله الجانب المصري وهو ما وقع فعلا، ومر ما يقارب عشر سنوات حتى جاءت سنة 1993 ليوقع الفلسطينيون في شخص المنظمة اتفاقية أوسلو بعد مفاوضات سرية انطلقت عام 1991 بالنرويج وبالضبط في أوسلو ولهذا سميت باتفاقية أوسلو رغم توقيعها في واشنطن، عبر أربعة عشر جولة برعاية أمريكية في سياق وطني تميز بالانتفاضة الفلسطينية التي فرضت وعجلت ببحث الكيان عن مفاوضات مباشرة مع المنظمة في العام الثاني للانتفاضة، تحديدا 1988، حين أعلن ياسر عرفات قبوله بقراري الأمم المتحدة 242 و338 اللذين منحا إسرائيل حق العيش في “حدود آمنة ومعترف بها”.
وقد أتت اتفاقية أوسلو في سياق دولي تميز بسقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي المدوي وما نتج عنه من انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم في إطار الأحادية القطبية، وفي سياق إقليمي مبعثر كانت أبرز تجلياته حرب الخليج الأولى إثر غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية المرتبطة به وخلال المحادثات السرية وما بعدها، انتهزت إسرائيل المكانة المهزوزة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي وصلت إليها بعد حرب الخليج على إثر دعمها للعراق في مواجهة الكويت وتحدي البلدان العربية المساندة في أغلبها للكويت وفي مواجهة الدول الغربية المتحالفة تاريخيا مع الكيان الصهيوني، وهو ما أضعف موقف المنظمة بعد هزيمة العراق ليتم توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، تحملت فيه قيادة فتح إثم التفرد في أخذ قرار تاريخي مصيري لا يخص فتح وحدها بل يمتد أثره إلى ما هو أبعد، اعترفت فيه المنظمة بدولة الكيان الصهيوني التي تمتد سيادته على ما يسمى بأراضي 1948 والتي تشكل 77 في المائة من فلسطين التاريخية، وتعهدت بإيقاف العمل المسلح ضد الاحتلال الصهيوني مقابل حكم إداري ذاتي على الضفة الغربية وقطاع غزة تحت وصاية الاحتلال الصهيوني.
وقد كان الرفض حينها للاتفاق واسعا وغير مسبوق في التاريخ الوطني الفلسطيني، فقد انضمت للرفض فصائل أساسية في منظمة التحرير كالجبهتين الشعبية والديموقراطية لتشكل مع حماس والجهاد الإسلامي والصاعقة والقيادة العامة وغيرها، ما عرف بتحالف الفصائل العشر مع تيار مهم داخل فتح نفسها رغم تطمينات المرحوم عرفات الذي كان يعتبر الاتفاق مجرد غطاء سياسي لدخول فلسطين والنضال من داخل الأرض، وهو ما يفسر فيما بعد حصاره من طرف الكيان الصهيوني في مقره وتطور الأمر إلى تسميمه للتخلص منه .
وفي هذا الاتفاق المشؤوم كما وصفته حماس، أعطت المنظمة كل شيء للكيان الصهيوني ولم تأخذ شيئا، فكما هو معروف في حروب واتفاقيات الاستقلال يتم الاتفاق على الخطوط العريضة والكبرى ويتم ترك الجزئيات بعد توقيع الاتفاقية، لكن في واقعة الحال تم الاهتمام بجزئية الحكم الشكلي دون التطرق للقضايا الكبرى والمصيرية في الصراع؛ منها القدس واللاجئين والمستوطنات و”حدود الدولتين” و”حق الشعب في تقرير مصيره” وهو ما يبين نظرة “إسحاق رابين” وتفكيره الاستراتيجي “الصائب” من منظورهم عقب رفع السرية عن تقارير المجلس الوزاري الصهيوني لسنة 1993 الذي أكد ثقته الكاملة في كون هذا الاتفاق سيكون بناء على الأداء الأمني والوظيفي للفلسطينيين رغم أن “رابين” أدى الثمن غاليا باغتياله من طرف اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني.
وبعد التوقيع على هذا الاتفاق الكارثي تم الاتفاق على المرحلة الانتقالية التي ستكون عبر خمس سنوات والتي كانت نتيجتها صفر، اتضح أن الكيان الصهيوني أدار اللعبة بمنتهى الخبث والبراغماتية وبمنطق الميكيافيلية فحولها إلى عملية تفاوضية لا تراوح مكانها، فهي لا تنتهي فتدور لترجع لمكانها الأصلي كحمار الرحى، ودخلت معه القضية الفلسطينية كما وصفها “نتنياهو” أحد أبرز اللاعبين في هذه المراحل بأسلوب فن إدارة النزاع مع الفلسطينيين، وهو ما جعل الفلسطينيين يتحملون كل شيء ولا يتحمل الكيان أي شيء لأن علبة التحكم في اللعبة بيد “إسرائيل” والدول المانحة التي تمسك بتلابيب السلطة عبر نخبة فلسطينية فاسدة مرتبط وجودها بمصالح الكيان الصهيوني ذابت فيه المنظمة العتيدة داخل السلطة الفلسطينية، وهكذا تحول مشروع تحرير فلسطين من النهر إلى البحر إلى مجرد مشروع إدارة الضفة الغربية وغزة أو بالأحرى الضفة الغربية وحدها بعد انسحاب قوات الاحتلال الصهيوني من غزة سنة 2005، وهكذا في الضفة الغربية والتي تشكل خمس مساحة فلسطين التاريخية سيحكم الكيان الصهيوني 60 في المائة منها بصفة مباشرة وتخضع 22 في المائة منها للتسيير المشترك أو التنسيق الأمني، وما تبقى يقع خلف جدار الفصل العنصري.
وقد تطور الأمر بعد انتفاضة سنة 2000 على إثر اقتحام السفاح “شارون” للمسجد الأقصى، وستتحول كلها تحت وصاية إسرائيل وينتقل عدد المستوطنين من أقل من 120 ألف قبل اتفاق أوسلو إلى مليون مستوطن لحدود الساعة، ليتضح أن ما يسمى بالتنسيق الأمني أو الحكم الذاتي ما هو إلا كذبة أطلقها الصهاينة جعلت من الضفة الغربية بلدية كبرى ضمن “إسرائيل”، ومن الفلسطينيين مجرد موظفين على شكل شرطة يعملون لصالح “إسرائيل”؛ يؤمنون أمن الكيان الصهيوني ويوجهون السلاح ضد الفلسطينيين وليس ضد المحتل تحت إدارة الاحتلال الصهيوني المباشرة.
بعد انسحاب العدو الصهيوني من غزة المنتفضة سنة 2005، ودون تحديد الإطار القانوني لهذا الانسحاب والذي سيطرح إشكالات ستتم الإجابات عنها عبر مجموعة حروب شنها العدو، أو عبر هذه الحرب الهجومية للقسام كواقع الحال، وبعد أن أصبح القطاع فيما بعد تحت إدارة حماس سنة 2007 بعد أحداث ما بعد الانتخابات الفلسطينية، والتي لا تعترف بالكيان الصهيوني، ستعمل على بناء مجتمع متضامن مقاوم؛ فعززت الجانب الإداري حيث ضبطت المجال الغزاوي وطهرته من العملاء، كما قوت الجانب الردعي العسكري عبر الاستفادة من تراكمات المقاومة، وسيتجلى هذا العمل التراكمي في كل عملية اشتباك مع العدو الصهيوني، سينطلق من الحجارة ثم السكين ثم البندقية ثم الصواريخ البدائية إلى تطور المقاومة وأسلحتها بشهادة العدو نفسه، وسيثمر إرادة جماعية فلسطينية تتمثل في حاضنة شعبية واسعة تؤمن بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره من أجل التحرر الكامل من الكيان الصهيوني الغاصب، وفي صورة توحي أن الشعب الفلسطيني يتذكر الدرس التاريخي المتمثل في مسلسل التهجير والشتات أو الاندماج المستحيل أو مسلسل ابتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من طرف الكيان الصهيوني عبر المفاوضات الماراطونية وجعلها في خدمة أجندات الكيان الصهيوني.
إن عملية طوفان الأقصى كفعل تكتيكي هجومي ضد المحتل تأتي في إطار الحسابات الاستراتيجية للمقاومة في إطار حرب تحرير طويلة، لا ورقة في لعبة بيد أطراف معينة، وهذه المعركة بهذا الشكل خاضتها على مستويين، المستوى الأول عسكري وأمني وسياسي؛ طورته حماس بشكل نال احترام العالم أجمع، والمستوى الثاني جد حاسم؛ وهو الإعلامي، وهو لا يقل أهمية لأنه في مثل هذه الحروب “يفوز من تربح قصته” كما يقول البروفيسور جوزيف ناي وهو ما تتقنه المقاومة في كل حرب .
كما أن العملية تأتي كذلك في سياق وطني محلي يتمثل في كون أغلب الفاعلين الفلسطينيين رفضوا منذ الأيام الأولى الاتفاقية المشؤومة كما هو واضح أعلاه، كما يتمثل في كون مجموع الفلسطينيين لم تعد لهم الثقة في عملية السلام التي أطلقتها اتفاقية أوسلو لعدم وفاء الكيان الصهيوني بتعهداته، وهو ما جعل عباس سنة 2015 يعلن عن رغبته الحالمة والمستحيلة في إسقاطها. والخلاصة أن اتفاق أوسلو أصبح في حكم الميت لتطوير القضية الفلسطينية أو تطوير “عملية السلام”، بل بات عبءا على الجانب الفلسطيني بعد أن دخلوا في مشروع التسوية مع تنازلهم عن حق الأرض والسيادة.
لقد شكل يوم السبت، وهو يوم انطلاق معركة الطوفان، في العقل الصهيوني يوم نحس، فقد سبق أن تعرض الكيان الصهيوني لضربة موجعة سنة 1973، عندما باغتهم الجيش المصري والسوري بضربات موجعة في تلك الأعياد وهو ما يشكل امتدادا للعنة التي لحقتهم عند مخالفتهم لأمر إلهي، وهو ما ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم حيث أمرهم عبر أنبيائه بتعظيم يوم الجمعة لكنهم وبطبيعتهم الزئبقية اختاروا يوم السبت كيوم عيد، يقول تعالى: “وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ” (الأعراف 163).
وهكذا ففي يوم السبت سابع أكتوبر 2023 مسخ الجيش الإسرائيلي ومسخ العمل الاستخباراتي ومسخ “نتنياهو”، وتم كشف هشاشة وضعف جيش الاحتلال على كل الأصعدة، وبالذات على مستوى طبيعة الجنود والمقاتلين. وباتت تشكل هذه المعركة سيناريو ممكنا لمعركة التحرير القادمة. كما أنه أحدث عملية إعادة صياغة الوعي لطرفي الصراع، وهكذا أعادت هذه المعركة للفلسطينيين الثقة بمشروع التحرير، وستحرر العقل العربي والإسلامي من وهم التفوق “الإسرائيلي”، وفي الجانب الآخر في الوعي والعقل والوجدان الصهيوني ستفقد هذه الحرب المجتمع الصهيوني بمكوناته المختلفة الثقة في قدرته؛ ليس على إبقاء الاحتلال بل على وجوده كدولة، مما سيكون له آثار كبيرة على المستقبل.
إن هذه المعركة كانت حتمية لأنها تأتي كذلك في مواجهة حكومة يمينية فاشية تضم عتاة المتطرفين الصهاينة الذي يتنكرون لحقوق الشعب الفلسطيني، ويستكثرون وجوده، ويسعون علانية لطرد من تبقى منه على الأرض الفلسطينية وتهجيرهم، وإلى إبادة القرى والمدن التي يخرج منها أي سياق يحبذ خيار المقاومة.
وتأتي المعركة في إطار إقليمي جامد من خلال نسيان العرب للقضية الفلسطينية؛ ففي الجانب العربي الرسمي، شكلت اتفاقية أوسلو كارثة في تاريخ الصراع بين العرب و”دولة” الاحتلال، إذ إنَّها فتحت الباب لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وبعد الاتفاق ذهبت عدة دول عربية إلى علاقات سرية بالكيان، وتحولت مؤخرا إلى علاقات علنية أضعفت القوة التي كان يمتلكها الفلسطينيون في التأثير في الدول العربية التي أصبحت تتبنى مقولة “لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم”، وهو ما أصبح يوحي بأن المستقبل قد يشهد مشاركة عسكرية عربية إلى جانب الكيان ضد غزة أو غيرها من المعارضين لسياسة الكيان الصهيوني، مع ملاحظة وجود معسكر الممانعة المتمثل في محور إيران وجيوبه وسوريا والذي له حساباته الخاصة به والذي يبقى لاعبا مهما في هذا الصراع.
وتأتي كذلك في سياق دولي مغاير، ذلك أن العالم يشهد الحرب الأوكرانية الروسية وما أبدته روسيا من محاولة مد نفوذها في عدد من الملفات الدولية وفي ظل استفاقة الصين أو انفتاحه على العالم والتي تتقارب مع روسيا، وهو ما يمثل نوعا من التقاطب العالمي قد يؤثر في مسار الأحداث.
إننا أمام نمط تجديدي دشنته المقاومة بقيادة كتائب القسام لتشكل حالة غير مسبوقة على الأرض الفلسطينية، عبر قراءة صحيحة لتطلعات الشعب الفلسطيني، وهو ما جعل الفلسطينيين في كل مكان يلتفون حولها؛ لما أبانت عنه من العبقرية في المبادرة والتكتيك العسكري ومباغتة جيش الاحتلال وأذرعه الأمنية والاستخباراتية واختيار الزمان والمكان، يوم السبت في غلاف غزة، وتوضح المشاهد القادمة من المعركة حجم الخسائر البشرية والمالية لدى العدو. بالإضافة للتفوق النوعي الذي أظهرته كتائب القسام
التي سطرت ملاحم أسطورية ستنقل الثقافة الفلسطينية من ثقافة أوسلو التفاوضية إلى ثقافة المقاومة والمنازلة، ومن ثقافة استهلاكية روجت لها سلطة الاحتلال عبر رفاه مصطنع في الضفة الغربية إلى ثقافة نضالية وجهادية تصنع سلاحها بنفسها وتخطط تدبيرا وإرادة وقدرة على تنزيل البرامج رغم كل التحديات، وصولا إلى الأهداف المسطرة، فقد عملت على تعمية العدو الصهيوني ليدخل معركة في أرض لا يعرف عنها شيئا في صياغة نموذج بشري ذا عمق إيماني بعدالة قضيته وفكر تحرري، على أرض سلاحها الاستراتيجي مدينة من الأنفاق ذات قدرات أمنية وإدارية وعسكرية في شبكة وامتداد لا يعلمها إلا القائد الجنرال محمد الضيف وأبو عبيدة وأصحابهما .
إن الوعي الفلسطيني ارتقى منذ مدة ليست بالقصيرة إلى ضرورة الصمود بأرض فلسطين، فقد تشكل لدى المنظرين الكبار منهم الشيخ أحمد ياسين رحمه الله ورفقاء دربه أن التحرير يجب أن يتحمله الفلسطينيون بالدرجة الأولى، وأن يكونوا القوة اللازمة للتحرير، ولا بأس من مساعدة الدول العربية والإسلامية، كما أن المثقفين منهم تنبهوا ونبهوا لهذا الأمر، كهذا نجد المناضل العضوي غسان كنفاني والذي ذاق مرارة التهجير وهو في سن صغيرة، في رواية “رجال حول الشمس” يحث على الصمود في أرض فلسطين، وتدور أحداث الرواية حول ثلاثة أشخاص فلسطينيين يعيشون أوضاعا صعبة ويحاولون الهروب من العراق إلى أرض الكويت لعل حياتهم المعيشية تتحسن، وتتطور أحداث الرواية عندما اتَّفق هؤلاء الرجال مع سائق فلسطيني كذلك اسمه أبو الخيزران ليهربهم من الحدود بين العراق والكويت ردف الشاحنة، وبدأت معاناتهم منذ صعودهم إلى الشاحنة المخصصة لنقل المياه أو أحد السوائل، بها خزان كبير، فكان الاتفاق مع السائق أن يختبئوا في الخزان عند المرور بنقطة التفتيش، وأن يخرجوا بعد المرور منها من خزان الشاحنة إلى الفضاء الخارجي، وعند الوصول إلى الحاجز الأخير مكث السائق أبو الخيزران يتجاذب أطراف الحديث مع الجنود حول راقصة في قصته المكذوبة، والرجال مختبئون في الخزان الساخن حتى نالت منهم أشعة الشمس في صحراء الكويت الملتهبة، ولم يلبث السائق أن اكتشف بعد أن عبر جزءا من الصحراء وابتعد عن نقطة التفتيش أنهم ماتوا خنقا جميعا، ليرميهم في الصحراء. وانتهت الرواية بطرح سؤال استنكاري: لماذا لم يطرقوا على جدار الخزان؟
رغم أن السؤال الحقيقي والاستنكاري والذي يشكل لب الرواية، لماذا لم يبقوا في فلسطين ويقاوموا، ما دام أن المصير واحد هو الموت، ولكن في أرض أخرى وبطريقة بشعة؟
لقد كان شكل احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين استثناء في القانون والواقع؛ استثناء في التاريخ، في جميع مساراته، في طول مدته، في غطرسة العدو، في طرق التعامل مع شعب فلسطين والاستهزاء بأعراف الدول وتقاليدها، وبالمقابل فإن صبر الشعب الفلسطيني كان استثنائيا، وفعله التحرري كان استثنائيا، حتى صارت غزة مثال التضحية والاستثناء عندما قال الشاعر الفلسطيني أحمد درويش:
إذا سألوك عن غزة
قل لهم بها شهيد،
يسعفه شهيد،
ويصوره شهيد،
ويودعه شهيد،
ويصلي عليه شهيد.
وأنه نتيجة طول مدة القتل والتشريد والتدمير أنبتت وأنتجت عينات بشرية جديدة غير مسبوقة من المجاهدين والمجاهدات، ومن الآباء والأمهات والأطفال، صدمت العالم كله. وفي مثل هذا قال الثائر الميداني الكبير تشي جيفارا: “حاولوا دفننا ولا يعلمون أننا بذور إذا دفنت نبتت”.