ها قد اقتربت النهاية والبداية، نهايةُ افتراس العراق العربي المسلم وبدايةُ افتراس عضو آخر، عربي أو عجمي، من الجسم الإسلامي، وقد بدأ التهديد والوعيد يدق أبواب سوريا.
لقد تفرجنا على قوات العدوان وهي تذبح عراقنا العربي المسلم وتأكله شِلْوا شلوا، ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، ولا منا، من حكامنا المستبدين المتخاذلين، واحد بادر إلى فعل سياسي أو عسكري لنصرة أخيه المظلوم والقيام ببعض ما توجبه عليه المواثيق التي في عنقه، والتي تفرض الوقوف بجانب الحق والعدل والشرعية ورفض العدوان وإدانته ومواجهته؛ لقد سقط القناع عن وجوه كالحة غارقة في مستنقع الهزيمة والخيانة والاستبداد والاستسلام.
فماذا سيسجل التاريخ عن هذه المصيبة الجديدة؟
سيسجل التاريخ أن هذا الغزو الغاشم قد رجع بنا القهقرى، وعادت، “الشرعية” مرة أخرى، إلى القوة العسكرية والاستعمار المباشر؛ فالأمم المتحدة قد انتهت، كما انتهت سابقتها عصبة الأمم، إلى العجز عن فرض احترام القانون والالتزام بقيم العدل والمساواة والتعاون بين الشعوب. وأكد العدوان الأمريكي البريطاني الصهيوني على العراق أن مجلس لأمن لم يكن، في حقيقته، إلا أداة للتنسيق بين مصالح الدول الكبرى المنتصرة على النازية في الحرب العالمية الثانية، وعندما تعارضت هذه المصالح ظهرت الأطماع التي كانت تخفيها مساحيق المجاملات السياسية والديبلوماسية الدولية. ومع هذه الأطماع الاستعمارية تكشّف الوجه البشع للصهيونية العالمية التي تقف وراء كل أنواع الإفساد في الأرض.
لقد انتُهك ميثاق الأمم المتحدة، وضُرب بـ”الشرعية الدولية” عرض الحائط، وعادت الثقافة الاستعمارية إلى عنفوانها بنفس شعارات التحرير والديمقراطية والتنمية. أما الأمين العام للأمم المتحدة، فلم يصف، ولو بالتلميح، غزو العراق بأنه اعتداء على سيادة بلد عضو في المجتمع الدولي وعلى حريته وحقه في تقرير مصيره. لم يجرؤ وهو المؤتَمَن على قيم العدل والمساواة وحريات الشعوب وحقوقها والمتكلم باسمها. وقد تبعه في هذا السكوت المريب الخائن للأمانة دول أخرى، إما خوفا وإما طمعا وإما انحيازا للنظام الاستعماري الجديد، ولكل فلسفته في التبرير والتفسير والترجيح والاختيار، والخاسر الأول والأخير هو المجتمع الإنساني الذي رجع، بهذا العدوان السافر المعتد بقوة السلاح، قرونا إلى الوراء، إلى شريعة الغاب، إلى قيم السلب والنهب والإخضاع والإرهاب بدعوى نشر الحضارة وتحرير الشعوب.
سيسجل التاريخ أن شعوب العالم قد صحت، بفعل هذا العدوان الظالم، على كابوس مرعب، حيث الغزو والاحتلال والقتل والتدمير والتخريب وقتل الأبرياء وارتكاب المجازر في حق الآمنين، ولا أحد، من الكبار ولا الصغار، يستطيع أن يفعل شيئا أكثر من الإدانة اللفظية والتعبير العاطفي الساخط؛ مثلا، رفضت فرنسا العدوان، لكنها بقيت ساكتة وهي تتابع مسلسل ذبح العراق والاعتداء على الأبرياء. وكذلك روسيا والصين وألمانيا وغيرها من الدول التي لم تنحز إلى العدوان. وها قد سكت صوت الإدانة، وبدأ الحديث الديبلومسي “المنافق” “المهادن”، ومن ورائه الرغبة في الحصول على حصة من الغنائم.
هل بقي للمجتمع الدولي من مصداقية بعد هذا التحدي الفاضح لقوانينه وأخلاقه وقيمه؟ هل بقي للأمم المتحدة من دور بعد هذا السقوط الفاجع المهين؟ هل ما يزال هناك عند شعوب العالم، وخاصة الشعوب المستضعفة، طمع في خير يأتيها من هذه المنظمة الدولية الساقطة؟
إن العالم اليوم يسير في منعطف جديد، ومهما يكن الوجه التي ستصبح عليه الديبلوماسية الدولية بعد هذه الجناية الأمريكية البريطانية الصهيونية، ومهما يكن اللون الذي ستنصبغ به العلاقات بين الأمم والشعوب، فإن المؤكد هو أن تجربة ستة عقود، تقريبا، من عمل الأمم المتحدة قد انتهت إلى الانحطاط، وأن المجتمع الإنساني اليوم في أمس الحاجة إلى ميثاق جديد وقيم أخرى لمواجهة قيم الاستعمار الجديد قيم الغطرسة والإرهاب العسكري، قيم الصهيونية المفسدة في الأرض.
سيسجل التاريخ أن هذا العدوان على العراق حصل وأمتنا مشتتة في إمارات ومملكات ودويلات يتسلط فيها على رقاب الشعوب حكام ليسوا منا ولا نحن منهم، همهم كراسيهم وشهواتهم، يتحكمون بالقمع والاستبداد والتزوير والتضليل، تطبع سياساتهم التبعية للسيد الحامي الأجنبي والائتمار بأمره، والظلم في توزيع الثروات، والتبذير في استغلال الموارد وتدبيرها، والسفه في الاستثمار والإنفاق.
حكّام عاضون جبريوّن مُسلّطون على رقابنا، يسوموننا الذل والمهانة، و لا يزالون، منذ تربعوا على عروشهم السفيهة، يسوقوننا نحو الهزائم المتتالية حتى تردّينا في قاع الحضيض، يصول العدو في أرضنا ويجول، ويفعل الصهاينة ومن يدور في فلكم من المجرمين المتطرفين بإخواننا، في فلسطين وفي غيرها من بلاد المسلمين، الأفاعيل ونحن نتابع مشاهد الذبح والسلخ والافتراس لا تكاد تطرف منا عين أو تتحرك فينا نخوة أو حميّة.
إننا أصبحنا غثاء كغثاء السيل، نحب الحياة ونكره الموت، عمرنا دنيانا وخربنا آخرتنا، فلا نريد أن ننتقل من العمران إلى الخراب. ويا ليتنا عمرنا دنيانا بما يرضي الله وينفع العباد، إذن لكنا من المعذورين المأجورين، وإنما عمرناها بالظلم والاستبداد ومفاسد أخرى من كل الأنواع والدرجات. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سيسجل التاريخ أن حكامنا الظالمين المستبدين قد نزلوا بأمتنا إلى أسفل دركات الانحطاط في التخاذل والاستسلام، فلم يستطع كثير منهم، والعدوان على الشقيق العراقي العربي المسلم سافرٌ ينتهك المواثيق وينقض المعاهدات ويسحق “الشرعية الدولية” تحت نعال قوته الغاشمة وتهديداته الاستكبارية- لم يستطع كثير من هؤلاء الحكام المستبدين أن يسموا هذا العدوان باسمه، بل منهم من باع كل شيء مما له علاقة بالسيادة والاستقلال من أجل السيد المعتدي الغازي.
لقد أكد حكامنا بهذا التخاذل والتواطؤ الذي طبع موقفهم إزاء غزو العراق أنهم قوم لا عهد لهم، وأن المواثيق المعقودة بينهم ليس لها رائحة من المصداقية، وأن بأسهم بينهم شديد، وأن منظمات كالجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي ما هي إلا هياكل فارغة تتردد فيها أصداء أنانيات الحكام الظالمين وحقاراتهم. فقد مر على إنشاء هاتين المنظمتين، فضلا عن منظمات إقليمية أخرى، في الخليج والمغرب العربي، عقود من الزمن لم يستطع فيها الحكام “المتألهون” من ملوك وأمراء ورؤساء وشيوخ، أن يجتمعوا على أمر واحد وأن يلتزموا به حق الالتزام، حتى في عز القومية الناصرية وما كان فيها من حروب ضد العدو الصهيوني، فقد كان هناك، في هذه الفترة، من الحكام الخونة من كان يلتزم بشيء في الوجه ويمارس خلافه في الظهر؛ كان هؤلاء الخونة- وقد فضحتهم الأيام بأسمائهم وأفعالهم الخاذلة الحقيرة- يعلنون، في الظاهر، أنهم مع قتال العدو الصهيوني المغتصب حتى تحرير الأرض واسترجاع الحقوق المسلوبة، وفي السر كانوا يلتقون مع العدو ويعقدون معه الصفقات ويتلقون منه الرشاوي مقابل خدمات استخباراتية أو تسهيلات عسكرية أو طعنات غادرة في ظهر الأخ الشقيق.
سيسجل التاريخ أن هذا العدوان الغاشم قد فضح هذا الاختلال الخطير الحاصل بين اتجاه الشعوب من جهة واتجاه الحكام وحكوماتهم-لأن الحديث عن حكومة مضافة إلى الشعب عندنا ما يزال من قبيل الأحلام البعيدة- من الجهة الأخرى؛ فموقف الحكام، وخاصة في القضايا التي تهم الأمة، كالاستعمار الجديد، والاستغلال المقنّع بشعارات التحرير والتنمية والديمقراطية والحداثة، والغزو الثقافي، والتبعية السياسية والاقتصادية، هو نقيض موقف الشعوب. لكن بفعل سياسات القمع والتغريب والتخدير والتضليل والاستبداد وفرض تقديس الحاكم إلى درجة العبادة، انكمشت إرادة الشعوب إلى زوايا العواطف المطوية في الصدور، وإلى فورات آنية وغضبات موقوتة ببعض المسيرات أو الأنشطة الشعبية التي يسمح بها الحكام، من حين لآخر، لذر الرماد في العيون، وللتنفيس عن البراكين الكامنة في أعماق النفوس المقهورة أن تنفجر.
لقد سلب الحكام المستبدون الشعوب إرادتهم وحريتهم حينما فرضوا أنفسهم بغير رضا منهم ولا اختيار إلا قوة الإكراه والإرهاب والتزوير والتضليل. وها هي هذه الشعوب اليوم لا تملك أن تفعل شيئا لمواجهة العدو الغازي؛ وها هي ذي الحكومات الاستبدادية تكرّس حدود االدويلات والإمارات التي صنعها الاستعمار في صورته القديمة، وتسكت عن السياسات التي يخطط لها الاستعمار الجديد في شأن مستقبل أرضنا وثرواتنا وهويتنا وأخلاقنا وحضارتنا.
لقد تناولت كثير من وسائل الإعلام العمومي في دولنا الواقعة تحت نير الاستبداد والاستعباد مصيبة اجتياح القوات الغازية أرض العراق وكأنه حدث لا يهمنا منه إلا الخبر كسائر الأحداث التي تقع في العالم؛ تَـنْـقُـل الأخبار عن سير عمليات العدوان عن وكالات الأنباء العالمية، وتعلق عليها بشيء كثير من التحفظ الذي يطبعه الخوف والنفاق والخذلان، دائما استنادا إلى ما تتداوله وسائل الإعلام من أنباء وتصريحات وتوقعات وتكهنات وسيناريوهات …لأن حكامنا مع العراق الجديد التي ستصنعه أمريكا، وبالتالي فرأيهم في المسألة هو مرهون بخطوات السيد الغازي المحتل. وإذا كان لا بد من الكلام، على طريقة حكامنا الجبناء التابعين، فهو كلام غير مسؤول، تائه في العموميات والإنشائيات والعاطفيات والنفاقيات، حَذِرٌ أن تتخلله كلمة أو حرف أو إشارة أو تلميحة يمكن أن تغضب “السيد الغالب”، أو يمكن أن يفهم منها هذا السيد شيئا يجعله يغير رأيه في شأن المعونات والمساعدات والوعود وغير ذلك من الرشاوي والعطاءات التي ينفح بها أتباعه الطائعين وعملاءه المخلصين.
باختصار، إن قصارى حكامنا، في مختلف سياساتهم، وخاصة في السياسة الخارجية، هو رضا السيد الأجنبي عنهم، ولو كان ذلك على حساب كل عزيز ونفيس. انحطوا إلى أسفل الدركات، فانحطت بسياساتهم الأمة وتشتتت وانهزمت، وتفرقت بذلك الهموم وضعفت الإرادات واختلت الموازين، فإذا بالعدو يحاصرنا من كل جهة، يملك حاجاتنا الحيوية، ولا نملك إلا الخضوع والانصياع.
سيسجل التاريخ أن دور العلماء قد تراجع بشكل خطير ينذر بالوبال، والعياذ بالله. لقد أصبحت الصدارة لديدان القراء، علماء السوء، لكنها صدارة في الحقارة والتبعية والشيطنة الخرساء. أما ورثة الأنبياء، العلماء العاملون الأتقياء، فغالبيتهم تعاني الحصار والتهميش وحملات التشويش والتشويه التي تشنها الأنظمة الحاكمة ومن يدور في فلكها من زمر اللايكيين والزنادقة والملحدين.
لقد بات علماء السوء أدوات طيعة بيد حكام العض الظالمين، يتحكمون فيهم كما يتحكم الطفل في لعبته، والمالك في مملوكه، يجعلونهم يتكلمون أو يسكتون حسب أهوائهم ومطالبهم ومقاصد سياساتهم. ولقد ظهر دور هؤلاء الموظفين المأجورين التابعين جليا بمناسبة هذا العدوان على العراق، حيث تم تحريكهم للجم عواطف جماهير المسلمين الغاضبة، وتخدير وعيهم وضبط سلوكاتهم وإخضاعهم للسيد الحاكم المقدس وليِّ الأمر الذي تجب له الطاعة في المنشط والمكره، وتحذيرهم من أن كل احتجاج أو اعتراض أو رفض سيكون مدعاة لإثارة الفتنة والخروج على النظام، وتذكيرهم، في البداية والنهاية، بأن الأمر هو قضاء وقدر، وأن ليس للمسلم أمامه إلا الإذعان والتسليم.
نعم، لقد كان للعلماء الأحرار، طليعة الأمة وقادة جهادها، طيلة أيام العدوان، صوت مسموع، لكنه بلا أثر مباشر في الواقع، إذ ليس مع هذا الصوت ولا وراءه إلا الجماهير المسحوقة الغاضبة التي لا تملك من أمرها شيئا، جماهير واقعة تحت أنظمة جبرية استبدادية قوام سياساتها تجاه شعوبها التزويرُ والتضليل والتخدير والإخضاع والاستعباد.
عسى اللهُ أن يفتح بهذا العدوان صفحة جديدة في تاريخنا تكون بداية منعطف حاسم نحو مراجعة الذات وتجدد الوعي وبناء الجسم الحي القادر على تأسيس البديل المطلوب، وبناء النموذج الإسلامي الناجح الذي تؤهله خصائصه الذاتية وعطاءاته الحضارية النوعية للوقوف في وجه النماذج الأخرى ومنافستها…
“وكان الله على كل شيء مقتدرا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.