قد تكون واحدا من الذين يقرؤون هذا المقال في محطة انزكان أو في مطار مدريد أو جالسا في أحد مقاهي العالم.. ربما أنت عائد اليوم إلى مدينتك الصغيرة أو قريتك البعيدة، وربما قد تكون مجبرا على تمضية العيد بعيدا عن أهلك وأحبابك وشوارع طفولتك..
ربما وأنت ترشف قهوتك الآن تتذكر بيتكم الصغير وغرفتك الدافئة ونوافذها حيث كنت تراقب والدك وهو عائد إلى المنزل وأكياس الخضرة تتأرجح بين يديه.. ربما تتذكر وجوه أصدقاء الطفولة الذين شاركتهم غفلة البدايات وروعتها حين يدهشك كل جديد. ربما تقارن اليوم نفسك وما فعلت الأيام بوجهك الناعم الصافي، والذي ظننت أنك سوف تحتفظ به للأبد. لم تكن تعرف التجاعيد التي يخبئها لك القدر..
ربما لازلت تحتفظ بطعم الضحك حين يخرج من القلب بلا تعمد، والإخلاص بدون نفاق لأصدقاء الدراسة الذين يباغتونك ليلا أو نهارا في منزلك! تحبون بعضكم بعضا كل الحب، ومستعدون للدخول في شجار مع أطفال الأحياء المجاورة! ثم بعدها تضحكون ملء قلوبكم وتنسون الأمر برمته..
ربما تتذكر فتيات مدينتك الأندى من الزهر والأبهى من القمر! حين كانت مسام القلب مفتوحة للحب بلا حذر أو احتياط..
ربما تتذكر بقال الحي الشاب الذي أصبح عجوزا، والذي فهمت في آخر زيارتك له كيف تغيرت الحياة وتغيرت مستلزماتها وأدركت أن ما كان يسعدك كطفل لم يعد له وجود بعد أن استبدل البقال أكياس (السانتافروتا) وعلكة (فلاش) وحلويات (جبح) وقطع (هولس) بأكياس (السنيكرز) وحبات (الأماماس) الصفراء والحمراء..
ربما تتذكر مطبخ أمك وروائح الطعام الحقيقي الذي يفتح شهية كل من يمر به، ويجمع كل من فى البيت. خصوصا كسكس يوم الجمعة الذي تذوقت فى أسفار بعيدة وأماكن عديدة نفس الكسكس ولكنه أبدا لم يكن مثل الكسكس الذي تصنعه أمك. ولم تفلح أبدا في اكتشاف سر هذا التميز حتى أنك حاولت إعداده بنفسك، في غربتك، بحثا عن هذا الطعم الذى يميّزه، ولكنك لم تنجح فاستسلمت معتقدا أن كسكس أمك به شيء من طيبتها وأيضاً جزء من ابتسامتها الساحرة. وقد تبتسم الآن وأنت تتذكر كيف كنت تتشاجر مع أخواتك طوال اليوم إلى أن تهبَّ رائحة الغذاء الذي تعده أمك وتنتشر فى البيت فتقوى رغبتك في التسامح ونسيان الخلاف. فتتبادلون الكلام والابتسامات قبل أن يقتحم التلفاز خصوصيتكم فينقص الكلام ويفرض بعده الفايس والواتساب الصمت والانزواء..
ربما تتذكر كف أبيك الذي استقر فوق خدك مرارا ليهبك مع الألم أروع دروس الحياة والتي بفضلها تقف اليوم منتصب القامة مرفوعة الهامة. وقد تتذكر هذه الكف الصلبة في وداعك الأخير له وتتأمل التجاعيد المزروعة فوقها وأنت تقاوم خجلك في أن تمنحها قبلة صادقة كلها بر وعرفان.
ربما تتذكر جدتك تلك الشخصية التي تتربع على عرش الكرم بلا منازع. المرأة التي تمارس الكرم وكأنها تتنفس. تكرم الفقير والضيف والسائل. ما طرق بابها سائل وخرج خالي الوفاض أبدا أبدا.. الجدة التي كانت تمنحك دائما الحلوى والحب والدفء وطبقا كاملا من طعام المعروف حتى لا تبيت بلا عشاء..
ربما تتذكر المسجد القريب من بيتك الذي كنت تمارس فيه نصف الصلاة ونصف اللعب والكثير من (البسالة) رغم سخط الكبار وصراخهم، وربما لازلت تتذكر الضحك المنفلت منك في الصلاة، حين يدفعك صديقك أو يصرخ في وجهك جارك الشيخ وهو يلوح بعصاه ومهددا بإخبار أبيك وتتعجب اليوم كيف انه لم ينفذ وعيده أبدا ولم يخبر أباك أبدا، فتترحم على روحه الطاهرة وعلى طيبوبته التي علمتك أن الصلاة خير من النوم..
قارئي العزيز أبارك لك هذا العيد بأرق وألطف عبارة: مبارك لعواشر.
ولا تنسَ أن تقرأ الفاتحة على أرواح من رحلوا.