مجلس الثلاثاء.. حينما أسّس الإمام نواة صلبة لـ”أسرة الجماعة”

Cover Image for مجلس الثلاثاء.. حينما أسّس الإمام نواة صلبة لـ”أسرة الجماعة”
نشر بتاريخ

كَثُرَت المجالس التي استُحدثت في جماعة العدل والإحسان منذ بداياتها، كما كثرت وسائل العمل والتبليغ والتفاعل. فمنها ما بقي قائما، ومنها ما طاله التعديل أو الإبداع والتجديد، ومنها ما استنفذ مهامه التي أنشئ من أجلها كما هو شأن “مجلس الثلاثاء” الذي أسسه الإمام عبد السلام ياسين سنة 1981م، وتوقف مع الاعتقال الثاني للإمام دجنبر سنة 1983م.

مجلس لم يعمر طويلا لكن أثره عميق في تربية الرعيل الأول

هذا المجلس الذي كان ينعقد بشكل دوري كل أسبوع، لم يعمّر طويلا بمعيار الزمن والسنوات، لكن أثره في بناء الصف وتربية الرعيل الأول من أبناء الجماعة الذين جلسوا إلى الإمام واقتنعوا بفكره كان عميقا جدا. دام قرابة السنتين فقط، لكن وسمه بقي مميزا حتى في آذان كل من له صلة بالجماعة وإن لم يكن من الرعيل الأول أو من بعدهم.

بعد انتقال الأستاذ عبد السلام ياسين من مدينة مراكش إلى مدينة سلا، أصبح بيته قبلة لمن أراد تعلم أسس دينه، ولمن يهتم بشأن الدعوة الإسلامية، وشرع بشكل عملي متقدم في تنزيل مشروعه، وبدأت تجتمع حوله أعداد من الشباب وتتأثر بأفكاره.

أسّس الإمام هذا المجلس وأشرف عليه بنفسه ليكون وسيلة تواصلية أخرى، لكنها أكثر قربا وأشد تأثيرا. تواصلٌ من نوع آخر يتسنى من خلاله للإمام الإنصات إلى الحاضرين والاستماع إليهم، وبسط مشروعه أمامهم، وتبليغ رسالته الشاملة التي لا يقتصر فيها على ما كتبه في الكتب وفي أعداد مجلة الجماعة. وقد كانت مضامينه “كلها بناء للإنسان المؤمن، تحثه على طلب وجه الله والإكثار من ذكر الله وحمل دعوة الله أمانة رسول الله صلى الله عليه، ثم بناء للتآخي بين فئات من المؤمنين” كما يحكي الأستاذ محمد بارشي عضو مجلس إرشاد الجماعة في شهادته لنا.

مجلس كان بمثابة “النواة الصلبة” لأسرة الجماعة

الأستاذ إبراهيم أكورار من أوائل أعضاء الجماعة الذين جالسوا الإمام وكان طالبا حينها في مدينة الرباط ينحدر من منطقة الشمال، ينظر إلى “مجلس الثلاثاء” على أن ما ألقي فيه من دروس وتدريبات وحوارات ساهم بشكل كبير في الدعوة، وفي “انطلاق النواة الأولى الصلبة لأسرة الجماعة سابقا/العدل والإحسان لاحقا”.

الإمام عبد السلام ياسين، جعل هذا المجلس في بدايته مفتوحا لمن آمن بفكره، وللزوار من أبناء الحركة الإسلامية، ثم بدأت تحدد معايير حضوره شيئا فشيئا، إلى أن أصبحت تلك المعايير أكثر صرامة، فكان كمثل غربال استطاع الإمام أن يجعله وسيلة لانتقاء رجال الدعوة وتربيتهم وتكوينهم ليكون منهم طليعة مجاهدة تتصدى لأمر بناء الجماعة، “ويمكننا اعتبار هذه المجالس من المجالس التي أسهمت كثيرا في تربية الرعيل الأول من أعضاء الجماعة وتكوينهم، وإرساء دعائم الجماعة” كما ذكر الدكتور عمر أمكاسو عضو مجلس إرشاد الجماعة، في مقالة منشورة في موقع العربي الجديد.

 يبدأ وقت “مجلس الثلاثاء” قبل أذان المغرب ويستمر إلى شروق الشمس، “نصلي المغرب جماعة، ثم نستمع بقلوبنا وآذاننا إلى ما يلقيه الإمام رحمه الله، قد يكون الكلام من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تفسيرا لآية من آي القرآن أو مدارسة لآية من آي الكون، أو أمرا له طابع تربوي أو دعوي”، هكذا يحكي الأستاذ بارشي عن المجلس، ثم يوضح أن مواضيعه، قد تبدو في ظاهرها غير خاضعة لناظم يجمع فيما بينها؛ “ولكن حين نتفكر فيها مليا نجد أنها كانت تبني فينا الإيمان بالله عز وجل، والإكثار من ذكره، والشوق إليه والدعوة إليه، واسترخاص كل شيء في سبيله عز وجل”.

مجلس بناء الهمة والعزيمة والإرادة

هذا المجلس من جهة الزمان، كان ينقسم إلى قسمين؛ قسم مع الإمام رحمه الله بالليل، وحين الختم معه بعد صلاة العشاء ينصرف الحاضرون إلى بيت آخر لتناول وجبة العشاء، ثم النوم على أفضل العزائم. يستيقظون للقيام بين يدي الله عز وجل ويبقون في ذكر الله بعد صلاة الفجر حتى الشروق، حينها ينصرف كل منهم إلى عمله أو إلى دراسته.

لم يكن المجلس لقاء عاديا عابرا، وإنما كان مدرسة حبلى بالدروس، والمواقف والعبر. يحكي الأستاذ بارشي موقفين عاشهما في كنف هذا المجلس، وتركا أثرا بليغا في مساره؛ أولهما حين رغبهم الإمام في الإكثار من الصيام تقربا إلى الله، وكان قد حل شهر رجب، ولما جاء موعد اللقاء، هيأ الإمام “ما يناسب الجمع من إفطار، لكن لم يحصل الذي كان يتوقعه من الجميع، حيث كان الصائمون حينها قلة، فعاتبنا بلطف ورحمة ورفق، وبعدها تنافس المؤمنون في الخير.” وهكذا كان العتاب اللطيف دواء شافيا بانيا لإرادة نافذة في قلوبهم.

أما الموقف الثاني، يقول المتحدث، فحين حل فصل الصيف، وطلب إليهم الإمام في اللقاء القابل إن أمكن أن يعد كل واحد منهم برنامجه الصيفي، لكن أغلبهم لم يأخذوا هذا الأمر على محمل الحزم والعزم، وتراخوا في ذلك. قال: “في الأسبوع القابل وكان اللقاء أسبوعيا، طلب الإمام إلى سيدي فتح الله حفظه الله ورفع مقامه، أن يجمع برامجنا وخطة كل واحد منا للصيف، لكن خاب ظنه فينا، واحد منا فقط هو من جاء بورقته وبرنامجه، والبقية الباقية وأنا منهم لم نكن عند حسن ما ظنه فينا رحمه الله. وفي هذه عاتبنا بقوة، وكان كلامه قويا موجها بانيا، ولم يستطع أحدنا أن يرفع رأسه حرجا من تقصيره”.

وتابع الأستاذ بارشي يقول: “وفي هذا المجلس بالذات، كان الشق الثاني أصعب علينا من الأول، لم يكلم أحدنا صاحبه، لم تعد لأغلبنا رغبة في تناول العشاء، وحين استيقظنا وذكرنا الله وقفنا بين يدي الله قياما، عرفت تلك الليلة من خضوع الإخوان لله وبكائهم وشعورهم بالذنب والتقصير، نسأل الله أن يتجاوز عنا جميعا، وفي الأسبوع القابل؛ الكل منا سيحضر ورقته، لكن الإمام عالج الأمر بشكل آخر، فقال: “ظننت أنكم لن تأتوا بعد الذي حدثتكم به، لكنني الآن تيقنت أني مع رجال” فعجبت كيف طبب فينا ما كان من أثرِ أنفسنا نسأل الله تعالى أن يجزيه عنا كل خير، ولم يسألنا عن البرنامج لأن الرسالة وصلت، رحم الله الإمام ورفع مقامه وجزاه كل خير”.

مجلس شامل للتعلم والتدريب ولتشرُّب الخصال العشر 

الأستاذ ابراهيم أكورار، أكد في حديثه عن هذا المجلس، أن مضامينه كانت تدور حول يوم المؤمن وليلته، ولتشرب الخصال العشر. قال: “من الجانب العملي كان اللقاء مع سيدي عبد السلام يقتضي ذكرا وصدقا وبذلا وعلما وعملا وسمتا وتؤدة واقتصادا وجهادا، والإمام كانت تتجسد فيه هذه الخصال”.

وتابع أكورار يوضح أن هذا المجلس شامل، يأخذون فيه دروس المنهاج، وفقه الدين بمفهومه الكلي، “وأذكر أن الإمام طلب مني أن أقرأ الفصل الثامن من كتاب “الإسلام غدا” على ثلاثة أشخاص بمشارب مختلفة، وأن أدون ردود أفعالهم، يعني كيف يتفاعل الآخر مع كتاباته، وفي نفس الوقت يكون درسا لنا حتى نعرف ماذا يريد الإمام أن يقول في هذا الكتاب، وما الفرق بينه وبين “الإسلام بين الدعوة والدولة”، وكلها أمور مهمة بالنسبة إلينا…”.

لم يكن كتاب الإحسان موجودا حينها، يقول أكورار، وكان من الشباب من يهتمون بأمور معرفة الله، وسبق لهم أن قرؤوا تجربة الإمام مع الشيخ العباس والزاوية البودشيشية.. فكان الإمام يمدهم ببعض الكتب، كي يساعدهم على فهم مشروعه، ثم يتابعهم في فهم هاته الكتب، “فيرشد الإخوان وينبههم لخصائص السلوك الجهادي الجماعي وكان يسميه رحمه الله تعالى بالسلوك الصحابي”، أي كيف نأخذ عن الصحابة؟ وكان يساعد الشباب على استيعاب ذلك، وشدد أكورار حيال كل ذلك على أن السلوك إلى الله “يحتاج إلى تجربة شخصية أكثر منه استيعابا فكريا، لأنه ذوق أكثر منه فكر، فسيدي عبد السلام كان يجمع بين التجديد القلبي والتجديد الفكري.. فتحس أن هذا الرجل يؤسس مدرسة”.

المجلس ورش مفتوح للدعوة والتدرب عليها وتلقين آلياتها وطرقها

فالمجلس، كما يراه من تخرج منه، هو ورش مفتوح للتحريض على الدعوة العامة والخاصة والتدرب عليها وتلقين آلياتها وطرقها، ومحاربة مثبطاتها، وكان الإمام يعالج مع الحاضرين خجلهم الناتج عن عدم معرفتهم بطرق التواصل مع الناس، “أذكر أن الإمام كلف أخا اسمه السي محمد الرقيق، كانت له تجربة مع جماعة “التبليغ”، بتدريب الطلبة وبعض الإخوان الموظفين على طرق الدعوة العامة”، يقول أكورار ثم يضيف عن نشاطهم الدعوي حينها: “هذه الجولات الدعوية ساهمت بشكل كبير في احتضان شباب الدعوة الذين التفوا حول المرشد في البداية على هذا الخير”.

فالدعوة عند الإمام – يضيف المتحدث- تحتاج إلى تدرج “فكان آنذاك يؤكد على الدعوة إلى الإسلام أولا؛ كيف نتواصل مع الشباب، ونحبب إليهم المسجد والصلاة في وقتها وذكر الله والقرآن.. فإن آنسنا منهم استعدادا للتنظيم دعوناهم للجماعة”.

ومما كان يؤكد عليه الإمام؛ مصاحبة هؤلاء الشباب المستهدفين بالتواصل واصطحابهم، والتقرب إليهم ومعاشرتهم، “كان يسألنا عمّن دعوناهم، فإذا جئنا للقاء المقبل سألنا عنهم بأسمائهم، ففهمنا بأن ما يميز هذه الدعوة المباركة، أنها تعتمد أساسا على الصحبة وعلى الاصطحاب والتواصل” يقول أكورار.

مجلس الثلاثاء كان إعدادا صلبا للمرحلة المقبلة

فـ“مجلس الثلاثاء” كان ورشا للتكوين والتدريب والتأهيل، وقد اكتشف أعضاء هذا المجلس، أن الإمام رحمه كان يُعِدهم للمرحلة المقبلة، فبعد إصدار صحيفتي الصبح والخطاب بدأت الاعتقالات ولم يسلم منها الإمام رحمه الله، بسبب ما كتبه في صحيفة الصبح، لكن اعتقاله في الحقيقة هو بسبب ما كتبه في أحد أعداد مجلة الجماعة “قول وفعل” وتفصيل هذا في إحدى الحلقات القادمة بحول الله.

أعضاء مجلس الإرشاد في بداية الثمانينيات

كان يهيئنا لما بعد هذه المجالس وهو اعتقاله رحمه الله تعالى. هكذا يقول أكورار، موضحا أن “الدروس المسجلة والتي كنا نكتبها كانت تبين أننا مقبلون على أمر جلل عظيم”، وبعد الاعتقال “ستظهر مهمتنا الدعوية فعلا، وحين كنا نعود للدروس السابقة، كنا نجد بأن سيدي عبد السلام كان يقول لنا: “برهان الصحبة في مواطن الخوف”“.

بعد دخول الإمام رحمه الله السجن، انعقد مجلس الثلاثاء مرة واحدة فقط، ثم توقف. وكان في أساسه قد استكمل مهمته، واستنفذ دوره في التبليغ، وفي إعداد تلك النخبة وبنائها، وهي التي تصدت لتدبير أمور الجماعة أثناء الاعتقالات الكثيرة التي عرفتها “أسرة الجماعة” حينها، بما فيها الإمام.

يتبع