عالجت التربية النبوية شوائب الجاهلية وبراثينها علاجا يوميا، فيه من الرحمة والرفق والحكمة والصبر والتدرج ما فيه من معاناة وخصامات وحرب وسلم واتفاق واختلاف، فالتحول الذي حصل للصحابة الكرام والصحابيات الجليلات بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر شدائد مكة وجهاد المدينة، نقلهم جميعا إلى مرتبة إيمانية لا تتحقق بالعزلة والانزواء، ولا تلقن في المدارس النظرية، وإنما في ظل مدرسة نبوية تنقلت أنوارها عبر الأجيال، روحها الصدق والوفاء والجهاد والبذل. هذه المدرسة التي لا تميز ولا تفاضل فيها بين الرجل والمرأة بمعيار الجنس، وإنما بالسبق في الإسلام والبيعة والهجرة والنصرة والجهاد.
في أحضان المدرسة النبوية تربى نساء ورجال الصدر الأول من الإسلام جنبا إلى جنب، واستقوا من النبع الصافي معالم التربية الإيمانية الصادقة على يد رسول صلى الله عليه وسلم وأمهات المومنين؛ فقد كن رضوان الله عليهن مشاركات في تربية كبار الصحابة الكرام أمثال سيدنا عمر رضي الله عنه بحالهن وقوة إيمانهن وصبرهن ومواقفهن الجليلة التي تفخر بها الأمة الإسلامية وتزخر بها كتب التاريخ.
والتطرق لهذا الموضوع، لا يأتي في سياق بيان فضل المرأة المسلمة والتباهي بأمجادها والانتصار لها على حساب الرجل، ولا لتأجيج النار التي أوقدتها بعض الفلسفات المتغنية بالصراع بين الرجل والمرأة، وإنما هو بقصد بيان حقيقة قرآنية لا ينبغي أن تغيب عن كل عاقل، وهي أن النساء شقائق الرجال ولهن مثل الذي عليهن في إقامة صرح الأمة الإسلامية، وبناء مستقبلها، وهذا ما فقهته المرأة المسلمة التي عاشت في كنف النبوة، فأدت وظيفتها في التربية والدعوة والتبليغ والتعليم والتغيير والإصلاح، وجادت على الأمة بإنجاب وتربية وصناعة الرجال العظماء.
فلماذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وما أثر الصحبة والأخوة في الله مع الصحابيات الجليلات في بناء هذه الشخصية العظيمة؟
عمر الرجل العظيم هو ثمرة طيبة مباركة من ثمرات التربية النبوية الرحيمة الحكيمة، نموذج رفيع للرجل الذي صبر الحبيب المصطفى على تربيته ولم يستعجل التغيير فيه ولم يواجه شدته وغلظته بالعنف والقوة لمعرفته صلى الله عليه وسلم بنفاسة معدنه وصدقه، فعندما تفصح النساء في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن هيبة وفظاظة عمر، يأتي التوجيه النبوي الشريف ليعظم عمر ويرفع من شأنه ويجعل قوته استقواء على الشيطان الذي يسلك فجا غير الذي يسلكه عمر لصدقه وقوته وهيبته.
عمر الفاروق الذي نفذت أنوار الصحبة إلى قلبه فغيرته من حال إلى حال، فذاك الرجل الغليظ الذي كانت النساء يهبنه في البداية هو نفسه الذي انحنى وانكسر لسيدتنا خولة بنت ثعلبة ورفق بها رغم إكثارها عليه بالنصح، وهو آنذاك أمير المؤمنين، لأن الرفق النبوي الذي تربي فيه سيدنا عمر رضي الله عنه كان قد أينعت ثماره في شخصيته، فما تعسف في صد سيدتنا خولة وما استقوى عليها بمنصبه، وإنما أحسن الإنصات إليها واستمع بتعظيم وتوقير يليق بمن سمع الله قولها، فخولة رضي الله عنها استوقفت أمير المومنين لتذكره بفضل الله عليه وتنصحه بالتقوى ولزوم شرع الله في سياسة الرعية، وعمر الذي كان لا يعد للنساء شيئا في الجاهلية، هو نفسه الذي وقف بكل تواضع وانحناء أمام امرأة، وقدرها بتقدير الهدي النبوي وتكريم الوحي الإلهي.
ومن خولة إلى سيدتنا أسماء بنت عميس التي أعطت نموذجا رفيعا لقوة شخصية المرأة المسلمة التي عرفت حق نفسها واعتزت بمكانتها وأدركت مسؤوليتها، ساقها الدكتور عبد الحليم أبو شقة كنموذج من المسلمات اللواتي وصلن درجة عالية من النضج، وكان لها فضل المشاركة في الحياة الاجتماعية، لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرام أصحابه كعمر بن الخطاب رضي الله عنه 1، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: … ودخلت أسماء بنت عُميس، على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قالَ عُمَرُ: الحَبَشِيَّةُ هذِه البَحْرِيَّةُ هذِه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم.. فلما جاء النبي قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: فما قلت له؟ قالت: قلت له كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدةٌ، ولكم أنتم – أهل السفينة – هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا، يسألوني عن هذا الحديث 2.
تعزز سيدنا عمر رضي الله عنه على سيدتنا أسماء بالأسبقية والأحقية، فغضبت وردت ردا قويا، وصامت عن الطعام والشراب حتى اشتكت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتكمت إليه وكلها يقين أنه سينصفها، فانتزعت حقها انتزاعا جميلا؛ فيه من القوة والشجاعة ما فيه من الصدق والإخلاص.
ولعل هذا ما جعل الدكتور أبو شقة بعدما وقف على مشاركة المرأة المسلمة في الحياة العامة في عصر الرسالة يقول: “هل يعجب بعد ذلك من حضور بديهتها وشجاعتها الأدبية في مواجهة عمر بن الخطاب – وهو الذي كان يهابه الرجال – خلال حوارهما المرح والجاد في الوقت نفسه” 3.
قصة تعكس الحياة اليومية للصحابة الكرام بمشاكلها وشخصياتها المتحركة المخطئة التائبة المتظاهرة المتخاصمة المتصالحة، وتؤكد أن الصحابيات رضوان الله عليهن بعد أن أكرمن بنور القرآن، لم يعدن صامتات محجور عليهن وراء جدران الحريم، بل أصبحت لهن شخصية مستقلة وإرادة فاعلة وحضور وازن وصوت مدافع عن الحق، بعد أن لم يكن الرجال في الجاهلية يعدون لهن أمرا.
مع هؤلاء وأمثالهن تربى سيدنا عمر فصقل معدنه، واكتملت شخصيته، وتهذبت روحه، وأيقنت نفسه أن شقيقاته من النساء المسلمات الأوليات السابقات إلى الإسلام يشاطرنه حب الرسول والجهاد في سبيل الله، لهذا طالهن من الفضل والمكانة والسبق ما لم يكن لكثير من الرجال.
وأيقنا نحن أيضا من واقعة أسماء رضي الله عنها أن “استكمال الإيمان في قلب المؤمن لا يكون مع الحسابات الصغيرة والضغائن الحقيرة والإحساسات المريرة من حقد، وحسد، وأنانية، وحب رئاسة، وحرص على الدنيا وهوى في متاعها الفاني كما يتمتع اللاهون العابثون بأعمارهن. وإنما يتساكن الإيمان المكتمل مع حب الخير للمسلمين، وللناس أجمعين ولخلق الله عامة” 4.
وأما سيدتنا أم عمارة رضي الله عنها التي تمثل أفضل تطبيق للإسلام وأحكام الشرع؛ فقد سمعت بالدين الجديد في المدينة المنورة، وراقبت أخباره، وأشرق الإيمان في قلبها ثم أسلمت قبل الهجرة، وحضرت بيعة العقبة الثانية، وبايعت الرسول صلى الله عليه وسلم مع أم منيع بنت عمر (هما المرأتان الوحيدتان في هذه البيعة)، فكانت من الأنصاريات السابقات في الإسلام.
إنها المرأة التي تردد اسمها على مسامع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنها حملت السلاح ودافعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد بعد أن انهزم المسلمون، وكان عمر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما التفت يمينا ولا شمالا إلا وأنا أرى أم عمارة تقاتل دوني” (أخرجه ابن سعد، 8/415).
بايعت هذه المرأة رسول الله قبل كثير من الرجال، وباعت نفسها لله، لتكون ممن قال فيهم الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ (سورة التوبة، 111).
لقد تعلم سيدنا عمر ورجال الأمة من شهادة رسول الله في حق أم عمارة درسا عظيما في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل نصرة دين الله، قاتلت هذه المرأة تطوعا وأبلت البلاء الحسن وجاهدت إلى جانب الصحابة جهادا عسيرا وليس الجهاد عليها فرض. والباعث في ذلك حب عظيم يفدي المحبوب بالروح ويجعل كل مصيبة بعده جللا رغم فقد الأب والأخ والزوج والابن. موقف خالد لسيدتنا أم عمارة زاحمت فيه الرجال أمثال سيدنا أبي طلحة الذي يرفع صدره ليتلقى النبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: “هكذا! بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لا يصيبك سهم. نحري دون نحرك!” (رواه الإمام أحمد).
جمعت سيدتنا أسماء رضي الله عنها بين جهاد الوغى وجهاد التربية والبناء وصناعة الرجال، وشاركت في الحياة الاجتماعية والسياسية، ومعها تربى كبار الصحابة الكرام كسيدنا عمر، فما استنكر مشاركتها في ساحة الوغى وحملها السلاح كما يفعل كثير من المتحجرين، وما كان لهذا الرجل العظيم أن يستنكر ما رضي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، لذلك ظل يردد بصدق ما سمع من فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيدتنا أسماء بنت عميس بما تقتضيه حقوق المحبة والأخوة في الله.
وبمثل هؤلاء النساء يجب أن تقتدي المرأة المسلمة المعاصرة، وعلى حذوهن تحذو، حتى لا تنخدع بقول من يوهمها بظلم الإسلام لها، أو بمن ينعتها، سوء فهم منه، ناقصة عقل ودين، أو بمن يحيلها قاعدة محجورة في البيت.