ارتبط مفهوم النصرة في القرآن الكريم برفع الظلم. فكلما كان ظلم، وجبت النصرة. بما هي غيرة إيمانية تدفع المسلم لرفع الظلم .وانطلاقا من الآيات القرآنية يتبين أن للنصرة مستويات. ولكل مستوى وسائل تُحققها:
1- نصرة الله تعالى
إن أعظم الظلم وأكبره هو الشرك بالله. فقد قال لقمان لابنه وهو يعظه يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان/13]، وفي المقابل: أعظم النصرة، وأول مستوياتها، نصرة الله تعالى، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد/7]. يقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية: “ومعنى نصرِهم الله نصرُ دينه.. لأن الله غني عن النصر في تنفيذ إرادته كما قال سبحانه: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد/4]. ولا حاجة إلى تقدير مضاف بين {تنصروا} واسم الجلالة تقديره دينَ الله، لأنه يقال نصر فلان فلاناً، إذا نصر ذويه…” [تفسير التحرير والتنوير].
فهي إذن في هذا المستوى تعني طاعةَ الله سبحانه وطاعةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وحفظ حدوده، والبعدَ عن معاصيه. ويؤيد هذا وصف الله سبحانه وتعالى لمن ينصرهم، فبعد قوله سبحانه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج/40]، وصفهم بأنهم الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور [الحج/41]. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: “كان -أمرهم بالمعروف- أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له، -ونهيهم عن المنكر- أنهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر.”
ومن وسائلها العملُ بدين الله والدعوة إليه بجميع الوسائل والطرق، كل من موقعه، وجهادُ من خالفه بالإعداد اللازم مع اليقين بأن النصر من عند الله تعالى.
جاء في الآية إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد/7]: إن: أداة شرط، تنصروا الله: فعل شرط، ينصركم: جواب شرط.
فمتى وجد فعل الشرط بالوسائل التي ذكرنا بعضها، تحقق جوابه وهو نصر الله للمومنين،
ومتى تخلفت نصرة المسلمين لله، بمعصية الله ورسوله والتخلف عن الجهاد في سبيله أو التوكل على الأسباب والاغترار بها، تخلف وعد الله بالنصر .
ولنضرب أمثلة من التاريخ للصورتين:
– أول مواجهة بين الحق والباطل كانت في رمضان في غزوة بدر، وكانت القوة والكثرة والعدة والعتاد في جانب المشركين، وكان الإيمان والتوكل والاستماتة في نصرة الله ورسوله في جانب المومنين فتحقق النصر .
– بتخلق التجار المسلمون بأخلاق الإسلام الحسنة؛ بالصدق والأمانة… وبطاعة الله ورسوله في البعد عن الحرام؛ من غش وربا وخلف للوعد… انتشر الإسلام في بقاع كثيرة من الأرض.
في المقابل:
– الإعجاب بالكثرة والتوكل على الأسباب، في مثل قول المسلمين يوم حنين “لن نُغلب اليوم من قلة”، أخر النصر عنهم تأديبا لهم، وقد كان رسول الله صلى الله علسه وسلم في هذه الغزوة خاصة يقول وهو يقاتل: “بِكَ أَحُول، وبك أصول، وبك أقاتل”. وقد ذكرهم الله بفعلهم في قوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة/25].
– وفي يومنا؛ ابتعدنا عن دين الله وعن نصرته وتحكيم شرعه في حياتنا فأصابنا الذل والهوان وتداعت علينا الأمم، قال سيد قطب رحمه الله: (لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته وأصحاب عقيدته، ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم، وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وبذل الجهد الذي في وسعهم، فهذه سنة الله، وسنة الله لا تحابي أحداً، فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم…”.
2- نصرة النبي صلى الله عليه وسلم
وهي ليست ردَ فعل على إساءة أو على قول حاقد على سيد المرسلين، وإنما هي أمر إلهي يوجب على سامعه الاستجابةَ والإذعانَ له وإن كان نبيا مرسلا، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران/81]. فإذا كان سبحانه أوجب على المرسلين نصرةَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمن دونهم أولى بهذه النصرة، خصوصا من عاش معه ومن جاء بعدهم.
ولقد ضرب الصحابة أروع مثال في نصرته صلى الله عليه وسلم النابعة من محبتهم الشديدة له؛ فهذا خبيب بن عدي حين أراد المشركون قتله قالوا: أتحب أن محمدا مكانك وأنت في بيتك؟ فقال: لا والله ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه، فضحكوا منه.
وفي رواية قال لهم: والله ما أحب أني بين أهلي ومحمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه تشوكه شوكة.
وهذا سعد بن معاذ يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: “لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار… فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فو الله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك”.
وهذا أبو طلحة جعل صدره درعاً واقياً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سهام العدو، يوم أحد؛ “ويُشْرِفُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَنْظُرُ إلى القَوْمِ، فيَقولُ أبو طَلْحَةَ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي، لا تُشْرِفْ، يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِن سِهَامِ القَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ”.
وهذه أم عمارة تحكي عن نفسها يوم أحد فتقول: “فلما انهزم المسلمون انْحَزْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقمت أباشِر القتال، وأذُبُّ عنه بالسيف، وأرمي عنه بالقوس، حتى خلَصت الجراح إلَيَّ”.
عددت الأمثلة لعل قلوبنا تحيى بذكر الأفاضل فنقتدي بهم وننافسهم في نصرة الحبيب المصطفى، لأني أرى أن من أهم وسائل نصرته صلى الله عليه وسلم تعظيمه في قلوبنا، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بمعرفته ومعرفة سيرته ومقامه عند ربه، بقراءة كتب السيرة وتدارسها ثم بكثرة الصلاة عليه ثم محبته، فمن أحب شخصا أكثر من ذكره وتشبه به وامتثل لأمره وانتهى عن نهيه وأبدع في الدب عنه.
3- نصرة المومنين فيما بينهم
من الآيات التي يستدل بها العلماء على وجوب التناصر بين المومنين قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الانفال/72].
“جاء في تفسير هذه الآية” وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصرُ: (يريد: إن دَعوا… عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم، فأعينوهم، فذلك عليكم فرض، إلَّا على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تقاتلوهم عليهم حتى يتمَّ العهد، أو ينبذ على سواء. إلَّا أن يكونوا أُسَراء مستضعفين؛ فإنَّ الوِلَاية معهم قائمة، والنُّصْرَة لهم واجبة بالبدن، بألَّا يبقى منَّا عين تَطْرف حتى نَخرج إلى استنقاذهم، إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء…” 1.
ومنها أيضا قول الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال/73]. أي: أن الكفارَ ينصُرُ بعضُهم بعضًا، وأنتم -أيها المسلمون- إن لم تتناصَروا تكُن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.
والنصرة في هذا المستوى تكون بالنفس والمال والجاه والدعاء. ولقد ضرب الأنصار رضي الله عنهم أروع مثال في نصرة المومنين، وخلد لهم القرآن ذلك الفضل أبد الدهر. قال تعالى: والَّذينَ تَبَوَّأوا الدّارَ والْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدونَ في صُدورِهِمْ حاجَةً مِمّا أوتوا وَيُؤْثِرونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحونَ [الحشر/9] 2.
كتب الإمام البنا رحمه الله: «وإن ذلك المهاجِرَ الذي كان يترك أهله، ويفارق أرضه في مكة ويفِرُّ بدينه، كان يجد أمامه أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينتظرون، وكلهم شوق إليه، وحب له، وسرور بمقدمه. وما كان لهم سابق معرفة ولا قديم صلة، وما ربطهم به وشيجةٌ من صهر أو عُمومة، ما دفعتهم إليه غاية أو منفعة. وإنما هي عقيدة الإسلام، جعلتهم يحنون إليه ويتصلون به… وما هو إلا أن يصل المسجدَ حتى يلتَفَّ حوله الغُرُّ الميامينُ من الأوس والخزرج، كلهم يدعوه إلى بيته ويُؤْثره على نفسه، ويَفديه بروحه وعياله، ويتشبث بمطلبه هذا، حتى يؤولُ الأمر إلى الاقتراع… روى الإمام البخاري ما معناه: «ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة».
فمن وسائل التناصر بين المومنين إذن:
النصرة بالنفس: قال تعالى: بصيغة الاستفهام الاستنكاري الحازمة العازمة. وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [النساء/75]، فـ”طاعة الله تعالى… تقتضي مقاومة الظلم والاستكبار أينما كان، وتقتضي نصرة المستضعفين، وتقضي القتال من أجل ذلك، ائتمارا بقوله عز وجل في هذه الآية” 3.
النصرة بالمال: عن أبي سعيد الخدري قال: “بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على ما لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له”، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل” [رواه مسلم].
النصرة بالدعاء:
– الدعاء على الظالمين، كما قال سيدنا موسى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس/88]، فقال الله: قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا [يونس/89].
– والدعاء للمظلومين: فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو للمستضعفين والمنكوبين بأسمائهم، كان يقول: “اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين” [رواه البخاري ومسلم].
والوسيلة المشتركة لهذه المستويات الثلاث هي استعمال وسائل الإعلام والتواصل: فبه وعبره نعرّف بالدين وندعو له ونحاجج مخالفيه بالحكمة والموعظة الحسنة. ونعرف بالرسول الكريم، ونخرج سيرته للوجود بالترجمة والقصة وغيرها من الوسائل. يقول الشيخ القرضاوي في هذا الصدد: “ومن لغات العصر لغة الأفلام، فعلى المسلمين دخول هذا المجال والإنفاق فيه للتعريف بسيرة النبي، حيث يجب أن ننصر رسول الله بأساليب العصر، حتى نصل إلى عقل وقلب كل إنسان، المسلم وغير المسلم”.
وعبر هذه الوسائل ننتصر للمظلومين بالتعريف بهم وبقضاياهم ونشهر بالظلم وأصحابه، قالت عائشة رضي الله عنها: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لحسَّانَ بنِ ثابتٍ: “إنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يزالُ يُؤيِّدُك ما نافَحْتَ عنِ اللهِ وعن رسولِه”، ومعلوم أن سيدنا حسان كان يستعمل وسيلة التواصل المشهورة في عصره وهي الشعر.
آخر المستويات، وهو في الحقيقة أولُها وعليه تبنى المستويات الأخرى وبوجوده يتحقق وجودها على أرض الواقع، هو:
4- نصرة الفرد لنفسه
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء/97]. جاء في تفسير هذه الآية أنّها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم معهم بمكة، فلمّا هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدّوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثَّروا سواد المشركين، فقُتلوا ببدر كافرين، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنّهم أكرهوا على الكفر والخروج، فنزلت هذه الآية فيهم [رواه البخاري عن ابن عباس].
هؤلاء القوم ظلموا أنفسهم ببقائهم وسط الكفر حتى أثر فيهم.
وبإسقاط معنى الآية علينا اليوم نحن المسلمين فنحن ظالمون لأنفسنا؛ ببعدنا عن شرع الله واستكانتنا للحياة الدنيا ونسياننا ليوم العرض على الله وباتباعنا لهوانا وتفرق كلمتنا وتنافر قلوبنا، وغيرها من الأمور المبعدة عن الله.
وتتحقق النصرة في هذا المستوى بالهجرة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ [النساء/97]. كان على الذين نزلت فيهم الآية أن يهاجروا من أرض الكفر إلى أرض الإيمان ليفلحوا.
والهجرة المطلوبة في حقنا نحن اليوم، لنفلح أيضا، هجرة معنوية. وهي “حركة إرادية دائمة لا تتوقف إلا بالموت، نطرح بها عنا الرجس ونعدل بها إلى الحق دائما” 4.
أول خطوة فيها استشعار أن على كل واحد منا تقع مسؤولية النصرة بمستوياتها الأربع، كل من موقعه وبجهده، ثم هجر كل ما حرم الله، ثم قطع ما يربطنا بالماضي قبل التوبة، والتعالي على حاضر الفتنة، وترقب نصر الله بالتخطيط للمستقبل والاستعداد له.
وأخيرا: بالهجرة والنصرة قام الدين في جماعة الصحابة، وهما من معاني القرآن الكريم الخالدة، وبهما لا بغيرهما يقوم بإذن الله للدين مرة أخرى قائمة، وترجع له عزته وقوته.