في خطوة أثارت نقاشا واسعا داخل الأوساط الإعلامية، صادقت الحكومة المغربية مؤخرا على مشروع القانون الجديد، المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة وأحالته إلى البرلمان، وهو القانون الذي يثير مخاوف لدى العديد من المتابعين للشأن الإعلامي من توظيفه لخنق ما تبقى من مسمى “الصحافة” في المغرب في حال إقراره من قبل غرفتي البرلمان.
توسيع صلاحيات المجلس أم تضييق هامش الممارسة المهنية
مشروع القانون الجديد، الذي سيحل محل الإطار السابق المنظم للمجلس منذ سنة 2016 إن صادق عليه البرلمان، قام على فكرة توسيع صلاحيات المجلس من أجل تنظيم القطاع و”ضبطه” وتحيين معطياته كما جاء في مذكرته التقديمية، غير أن المقصد من عملية “الضبط” كما تلقفها مهتمون بالشأن الإعلامي والحقوقي، تستدعي التأمل بالنظر إلى الوتيرة المتسارعة للمتابعات الأمنية والقضائية للصحافيين والإعلاميين ضمن سياق عام تتعرض فيه الحريات الأساسية للتضييق بما فيها حرية الرأي والتعبير وممارسة الإعلام.
المشروع الجديد قلص عدد الأعضاء من 21 إلى 19، وفي سياق توسيع صلاحياته، لم يعد يكتفي بمنح المجلس مهمة “منح بطاقة الصحافة المهنية” كما في السابق، وإنما نص كذلك على “إحداث ومسك سجل خاص بالصحافيين المهنيين الحاصلين على بطاقة الصحافة المهنية، وسجل خاص بالناشرين”.
وضمن العقوبات التأديبية، فإن المجلس -وفق المشروع الجديد- أصبح يتمتع بصلاحيات أخرى فوق الصلاحيات السابقة، منها سحب بطاقة الصحافي المهني لمدة لا تتجاوز سنة، وقد تصل في حالة العود مدة تصل إلى ثلاث سنوات. وضم عقوبة أخرى جديدة هي “توقيف إصدار المطبوع الدوري أو الصحيفة الإلكترونية لمدة لا تزيد عن 30 يوما”، وهو ما يعتبره متابعون تمكينا للمجلس من وسائل التغول والتحكم.
من الانتخاب إلى الانتداب…
وإن كان مشروع هذا القانون في آلية تحديد أعضاء المجلس، حافظ على آلية الانتخاب للصحافيين المهنيين السبعة، فإنه تراجع عن هذه الآلية لصالح “الانتداب” بالنسبة للناشرين التسعة من العدد الإجمالي للمجلس، وهو ما يعتبره العديد من المتابعين تراجعا خطيرا وانقلابا على المنهجية الديموقراطية، خاصة وأن الصيغ التي يقترحها للانتداب هي مثار جدل واسع.
وهنا يتساءل مراقبون أسئلة مشروعة عن الهدف من اعتماد “انتداب” تمثيلية الناشرين في المجلس بدل الانتخاب، وفضلا عن ذلك تغليب كفتهم العددية على حساب الصحافيين المهنيين وعلى حساب المعينين الثلاثة عن المؤسسات الدستورية المكونة من المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
الأكثر أموالا.. الأكثر حظوظا في الانتداب
تفيد الآلية الجديدة لانتداب الناشرين في المجلس أن فلسفة مشروع هذا القانون لا تقوم على ديموقراطية تشاركية حقيقية تراعي “التعددية” في الاختيار من خلال الانتخابات المباشرة لعضوية الناشرين في المجلس، وإنما تقوم على منطق “الاحتكار”، وهو ما سيجعل عضوية الناشرين في المجلس لا محالة حكرا على أصحاب رأس المال، وذلك لأن القانون نص على أن “المنظمة المهنية التي حصلت على أكبر عدد من الحصص التمثيلية تفوز بجميع المقاعد المخصصة لفئة الناشرين”.
إذ إنه أثناء تقدم الناشرين بملف الانتداب أمام اللجنة المكلفة باختيار المنتدبين، فإن كل ناشر بالإضافة إلى حصته الأساسية المستحقة وفق الشروط المحددة؛ يستفيد من عدد إضافي من الحصص التمثيلية بناء على عدد المستخدمين في المؤسسة وعلى أساس رقم المعاملات السنوي كذلك، ووفق ذلك يستفيد من حصة إضافية مقابل كل 4 مستخدمين، و7 حصص إضافية أخرى إذا كان الرقم السنوي المالي للمعاملات في المؤسسة يفوق 9 ملايين درهم. وهو ما يعني صراحة أن من يملك مالا أكثر يضمن السيطرة.
وإذا كان العدد المنصوص عليه المستحق للناشرين هو 7 مقاعد، فإن العدد الفعلي هو 9، لأن القانون يخول للمنظمة المهنية التي فازت بتلك المقاعد السبعة، تعيين عضوين ناشرين آخرين مع شرط الكفاءة، وهو يؤكد ترجيح كفة الناشرين على حساب الصحافيين المهنيين، ما يعزز مخاوف من يرى أن فلسفة هذا التعديل يغلب عليها طابع الهيمنة والاستثمار والاحتكار أكثر من كونها تطويرا لمجال الصحافة في المغرب.
هل يمس “الانتداب” بجوهر التنظيم الذاتي للصحافة؟
وحيال هذا المسار الذي يحرم المجلس من انتخاب أكثر من نصف أعضائه، يتساءل متسائلون عن قدرته الفعلية والواقعية على ممارسة صلاحيته الجوهرية المتمثلة في “التنظيم الذاتي للصحافة” باعتبارها أحد أركان الديمقراطية الحديثة، والضامن الحقيقي لحرية الصحافة واستقلاليتها عن السلط التنفيذية والتشريعية وأصحاب رأس المال، كما يرى ذلك الصحافي الشرفي والخبير في شؤون الصحافة والإعلام الأستاذ حسن اليوسفي المغاري.
وتابع اليوسفي في تصريح خاص لـ”بوابة العدل والإحسان” موضحا أن “التنظيم الذاتي للصحافة” هو منظومة أخلاقية ومؤسساتية تسمح للمشتغلين في الحقل الصحفي بتنظيم شؤون مهنتهم من خلال آليات مستقلة عن الدولة، مثل إصدار الميثاق الأخلاقي، وتدبير شكايات الجمهور، وتأديب الصحفيين عند الإخلال بمواثيق الشرف.
وأبرز اليوسفي ما يمكن اعتباره “مرجعية دستورية” للتنظيم الذاتي للصحافة في المغرب، استنادا إلى الفصلين 25 و28 من الدستور، حيث يؤكد الأول أن حرية الرأي والتعبير مكفولة بجميع أشكالها، بينما ينص الثاني صراحة على أن “حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة المسبقة، ويجب أن يحترم القانون استقلالية وسائل الإعلام”.
“التنظيم الذاتي” يتنافى مع تدخل الدولة أو إشرافها
أما في السياق الدولي فقد أشار اليوسفي إلى أن اليونسكو تعتبر الهيئات التنظيمية المستقلة للصحافة “ضمانة أساسية لحماية التعددية وحرية الإعلام” وتوصي بتمتيعها باستقلال مالي ومؤسساتي لتدار من قبل الصحفيين أنفسهم. وهو توجه مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة نفسه الذي يوصي الحكومات بـ”عدم التدخل في إنشاء هيئات الإعلام المستقلة أو محاولة التأثير على تشكيلها أو تمويلها بما يحد من استقلاليتها“.
واستحضر اليوسفي في حديثه عددا من الدول الأوربية التي يتمتع فيها الجسم الصحافي بالتنظيم الذاتي حقيقة، ويسير أموره بأشكال ديموقراطية بعيدا عن أي وضع للتنظيم المهني تحت إشراف الدولة بأشكال قد تكون مباشرة أو غير مباشرة، ومن تلك الدول المملكة المتحدة التي توجد بها هيئة مستقلة يمولها الناشرون وتحرص على ضم ممثلين عن الجمهور والصحافة، ولا تشرف عليها أي جهة حكومية شأنها شأن ألمانيا والسويد.
جدير بالذكر أن المجلس الوطني للصحافة، يعيش منذ عام 2022 وضعا استثنائيا بعد انتهاء فترة انتداب أعضائه دون إجراء انتخابات جديدة، ما جعل الحكومة تنقل صلاحياته إلى لجنة مؤقتة لتدبير شؤون الصحافة والنشر لمدة سنتين، وبعد ذلك صادقت على مشروع القانون المتعلق بإعادة تنظيم المجلس وأحالته إلى البرلمان، الثلاثاء الماضي، ليتم الشروع بعرضه ومناقشته في لجنة التعليم والثقافة والاتصال يوم الأربعاء 16 يوليوز 2025.