مطلب العدل في بناء المشروع المجتمعي

Cover Image for مطلب العدل في بناء المشروع المجتمعي
نشر بتاريخ

يعتبر العدل أم المصالح التي يقصد إليها الشارع، هو صلب الدين وحوله تطوف هموم المسلمين، وبه بعث الله الرسل والنبيئين مبشرين ومنذرين، ويقصد بالعدل الاستقامة في حقوق الله وحقوق العباد، وهو فرض أكيد بعث الله الرسل يدعون إليه وأنزل معهم الكتاب والبينات تؤكد الدعوة وتلح عليها [1].

والعدل هو منهاج يبني جسور الثقة بين الحاكم والمحكوم، فينعم الحاكم بالاطمئنان من قبل المحكوم، وتستقيم شؤون المجتمع باستقامة الأفراد، ويأخذ الجميع حقوقهم، فلا يهضم حق إنسان على حساب الآخر، ويتساوى الجميع ويتناصف الكل، فترجع الحقوق لأصحابها، ويقضى على الظلم الذي هو سبب هلاك الأمم والمجتمعات. وفي هذا الشأن يقول الإمام ابن حبان البستي: “لا يكون المال إلا بصلاح الرعية، ولا تصلح الرعية إلا بالعدل، ولا يكون العدل إلا باتخاذ وزراء ذو صلاح”، فالعدل إذن هو أساس استمرار وقيام الدولة. وقد صدق ذلك الحكيم الذي قال: “إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة”، وهذا ما يصدق على الدول الغربية.

فالعدل هو عماد العمران أخويا كان أو مدنيا قانونيا، وعدل الحاكم في أحكامه عماد السلطان الشوري وشروطه. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: من الآية 58]، وعدله في القسمة هدفه الأول، وأمره اليومي، وواجبه الدائم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، والبغي في القسمة من أعظم البغي. وقال المفسرون في معنى العدل والإحسان، العدل لا إله إلا الله والإحسان أداء الفريضة، وقيل العدل فرض والإحسان نافلة، وقيل العدل استواء العلانية والسريرة والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية، وقيل العدل الإنصاف والإحسان التفضل [2].

ويهدف العدل إلى المناصفة والمساواة بين جميع أطياف الشعب والمجتمع، كما يهدف إلى حماية المصالح الخاصة للفرد والعامة للمجتمع، وذلك من خلال إقامة الحق وتحقيق الأخلاق الحميدة، وهذا كله من خلال تحقيق المفاهيم الحقيقية للقانون وتطبيقها بكل حسم وشفافية.

والعدل أنواع، فهناك العدل الاجتماعي؛ وهو الذي يقوم على توزيع عادل للثروات والحقوق بشكل يقضي على الأثرة والطبقية والذئبية الجشعة التي تسود مجتمعاتنا، وهناك عدل قضائي؛ وهو الذي يقوم على تطبيق القوانين بشكل متوازن تراعى فيه حقوق الفرد كان فقيرا أو غنيا، مواطنا أو حاكما، فيكونون سواسية أمام القضاء. وإنه لحلم بعيد أن نتحدث عن دولة الحق والقانون دون التفكير أو السعي إلى ترسيم أجهزة قضائية ومؤسسة عدالة صالحة، تعمل وفق قانون صارم متماشي مع روح العصر، سواء كان هذا القانون سماويا من عند الله، أو قانونا وضعيا من عند البشر، المهم في هذا أن يكون هناك اتفاق بين أفراد تلك الجماعة على قابلية الخضوع لتلك القوانين، وتنفيذها التنفيذ الصحيح والملائم.

والعدل المجتمعي المطلوب هو عدل الخبز اليومي، عدل العمل، عدل الأجر على العمل، العدل في التطبيب وفي السكن، هو العدل الذي يحقق الحرية والكرامة، هو عدل الكفاية.

ويقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله عليه: “إنه لتَحَدٍّ كبير، ملح حالٌّ غيرُ مؤجّل، يطلقه في وجه العاملين للإسلام واقع الأمة البئيس بقدر ما هو واجب فرضه الله رب العزة رب العباد” [3]، “وبواسطة السلطان الشوري، وهو عدل الحكم، يفرض عدل القسمة لنصل الخلافة الثانية بالأولى، على فهم واسع لصواب الأمر النبوي، وفهم رأي الصحابة الأخيار، وفهم عمل الحواريين الخلفاء الراشدين واجتهادهم” [4].

العدل الاجتماعي مطلب كل المستضعفين ومطلبنا، والعدل القضائي شرط فيه مشروط.

هما عدلان متلازمان؛ عدل الحكم وعدل القسمة، وما نراه في أنظمتنا من ركود وموت اقتصاديين، أو ازدهار مزيف كازدهار خضراء الدمن، وما نراه من ازدياد فقر المستضعفين وازدياد ثراء المترفين، إنما أتى من كون جهاز الحكم ينخره الفساد، والقضاء تحت الفتنة تابع للجبر لا لله، فتعطل مصالح المستضعفين، وتسن قوانين اقتصادية لا تراعي مصلحة البلاد والشعب، ويحكم لمن له مال يرشو به، وجاه ترجى عائدته.

العدل الاجتماعي والاقتصادي والقضائي ينافي المحسوبية، ينافي إرضاء الناس بما يسخط الله، ينافي الظلم وهو ظلمات يوم القيامة، ينافي التدخلات لخرق الحقوق وهي شيء آخر غير قضاء الحوائج، العدل أن تكون الإدارة والقضاء في خدمة العجوز المسكينة، وفي خدمة المتعلم والغني والحاكم، العدل أن توضع إمكانية الدولة تحت تصرف الشعب [5].

وعلى مقدار نشر العدل في الأرض تتحرر النفوس، وتتلقى الأمر الإلهي بنية التنفيذ، فيتلازم العدل مع مفهوم منهاجي أساس، ويلتصق به، هو مفهوم الإحسان [6].

إن آفة ظلم الإنسان وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء قضايا تحتاج أن تناقش وتحل بأخلاقية كوكبية، تزم النزوات الاستغلالية الرأسمالية وتنشر العدل والسلام.

أخلاقية لا تلدها رحم حقوق الإنسان المعلنة المخلقة، وإنما يلدها طموح عال لا تشغله قضايا الساعة وتطور العالم السريع المذهل عن الطموح للحق [7].

وفيما بين المسلمين بعضهم مع بعض قضايا تحتاج لمناقشة متأنية صابرة على الاختلاف فاتحة باب التسامح للاجتهاد منها الأساسية المصيرية مثل العدل والشورى والوحدة [8].

وإنه لقمة العدل أن تدعو جماعة العدل والإحسان لميثاق وطني، يجمع القوى السياسية وكل ذوي المروءات الراغبين في التغيير، ويؤسس لتغيير ديمقراطي فعلي عبر التواصل والحوار لتدبير المرحلة السياسية القادمة، هي دعوة أطلقها الإمام المجدد رحمة الله عليه عندما قال: “على أرضية الإخلاص للوطن، الوفاء له، والاعتزاز بخدمته يمكن أن نمد جسورا للتعامل والتعاون مع ذوي المروءات والكفاءات، وأن نتحالف معهم ونتعاهد” [9]، وذلك وفق مبادئ وأهداف جامعة ومسطرة يقتنع بها الجميع وعلى رأسها إقامة دولة العدل والحرية والكرامة، وهذا مطلب لا يختلف عليه اثنان، ولا حياد عنه لبناء دولة الحق والقانون وللنهوض بالشعوب وضمان تقدمها وازدهارها.


[1] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص 222.

[2] عبد السلام ياسين، الإحسان الجزء الأول، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ص 398.

[3] المرجع نفسه، ص 400.

[4] المرجع نفسه، ص 402.

[5] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي – تربية تنظيما وزحفا، ص 234.

[6] الحسن السلاسي، الجهاز المفهومي في نظرية المنهاج النبوي عند الأستاذ عبد السلام ياسين، ص 102.

[7] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص 417.

[8] المرجع نفسه، ص 418.

[9] المرجع نفسه، ص 555.