قد يذهب لب عقلك وقد تقف مشدوها مشلولا أمام الموقف الرسمي للحكام العرب تجاه ما جرى ويجري اليوم في غزة من إبادة جماعية وتطهير عرقي وتجويع جماعي، وتحاول جاهدا البحث عن مبررات ومسوغات لهذا الموقف غير الإنساني بله أن يكون قوميا أو إسلاميا لا سمح الله! محاولتك هذه، غرضها ترجمة القولة الشهيرة “إذا عُرِفَ السبب بَطُلَ العجب“.
ونحن عندما نعود إلى مجريات التاريخ الحديث علينا إما أن نعيد ترتيب الأحداث وتفكيك تشابكها حتى نتمكن من فهم العلاقة بينها، وإما أن نعيد تركيب قطع الأحداث حتى نتبيّن صورتها كاملة تماما كما يفعل الأطفال مع لعبة “puzzle“. وفي هذا السياق علينا جميعا ولتحقيق هذا الغرض أن نستحضر المعطيات التاريخية التالية:
1- اتفاقية سايكس-بيكو التي وقعت يوم 3 يناير 1916 بين الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والتي تم الاتفاق فيها على تقسيم النفوذ العثماني أثناء وبعد إسقاط الدولة العثمانية، فوضعا بمباركة روسية إيطالية خريطة العالم الإسلامي وضمنه المنطقة العربية على طاولة الاتفاقية وشرعا يقسمانه بالمسطرة والقلم.
2- وَعْدُ بَلفُور أو إعلان بَلفُور وهو بيانٌ علنيّ أصدرته الحكومة البريطانيّة يوم 2 نونبر 1917 لدعم تأسيس «وطن قوميّ للشعب اليهوديّ» في فلسطين، التي كانت منطقة عثمانية ذات أقليّة يهوديّة لا تتجاوز 4٪ من إجماليّ سكان فلسطين.
3- إعلان سقوط الدولة العثمانية يوم 1 نونبر 1922 ودخول اتفاق سايكس- بيكو حيز التنفيذ، حيث باشرت كل من بريطانيا وفرنسا فرض سيطرتها على كل الأراضي التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية.
4- تسهيل عملية تهجير وتوطين يهود أوروبا الشرقية والوسطى إلى فلسطين، وتمكينهم من شراء الأراضي الزراعية، وتنظيم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، وإعدادهم إلى تسلم زمام الأمور في فلسطين بتسليحهم وتدريبهم على السلاح وتنظيمهم في كيانات وعصابات إرهابية.
5- اختيار أسر عربية موالية للمحتل البريطاني والفرنسي، تتبنى أهداف سايكس-بيكو وتحارب كل رغبة في التوحد بين الأقطار وكل حلم لإعادة فكرة “الخلافة“ التي قضّت مضجع الغرب الصليبي، وتقبل بوجود دولة يهودية ستسمى لاحقا “إسرائيل“ شملها تقسيم سايكس-بيكو (1916) وأقرها وعد بلفور (1917). على هذه الأسس والشروط المسبقة تم تنصيب حكام على الدول العربية المستحدثة، وإعطاؤها اليد الطولى في قمع الشعوب بما يضمن بقاء كراسيها واستحواذها على الثروات، وبما يضمن مصالح الغرب والقبول بالكيان الصهيوني الجديد الذي قد يكون عمره يوازي أو يزيد عن بعض الكيانات العربية التي أخرجها إلى الوجود قلم ومسطرة وطاولة سايس-بيكو.
6- سنة 1942 طرحت بريطانيا فكرة الجامعة العربية بغرض تشكيل تكتل عربي داعم لدول الحلفاء في حربها على ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، ما دفع العديد من جنود الدول العربية المشاركة إلى جانب المملكة المتحدة وفرنسا في حربها العالمية وفي حروبها لاحتلال مناطق عدة في العالم، ويكفينا هنا أن نذكر خطاب غشت الشهير الذي وجهه الراحل محمد الخامس والذي دعا فيه المغاربة إلى التطوع والمشاركة في الحرب مع المحتل الفرنسي لإخراج المحتل الألماني من الأراضي الفرنسية، وكذا المشاركة في الحرب الهند الصينية.
ولعل معظم المغاربة لم ينتبهوا جيدا إلى هذا المشهد السريالي، إذ كيف لحاكم نحسب أن الاحتلال الفرنسي نفاه من المغرب عقابا أن يدعو إلى دعم معاقبيه، بل والموت من أجل تحرير وطنهم، والمغرب ما يزال وقتئذ تحت الاحتلال، وما يزال المحتل ينهب ثرواته ويقتل بناته وأبنائه.
ولعل التفسير المنطقي الوحيد لما قام به الراحل محمد الخامس وغيره من حكام العرب الذين نَصَّبَهم المحتل وكلاء له، يكمن في أداء الوظيفة التي نُصِّبوا من أجلها على كراسي الحكم، والمتمثلة في رعاية مصالح المحتل بطريقة مباشرة وغير مباشرة. وعليه فإن الجامعة العربية مذ كانت فكرة في حضن وحِجرِ بريطانيا، ومذ أسسها وكلاء سايكس-بيكو في القاهرة بمشاركة مصر وسوريا ولبنان والعراق كانت الغايات المرسومة لها تتمثل في القطع مع فكرة “الخلافة الإسلامية“، ثم توظيفها كتكتل لتحقيق أهداف دول التحالف، والتي كان من بينها غرس الكيان الصهيوني في خاصرة العالم الإسلامي مثلما تم غرس كيانات قزمية يخدم ضعفها السياسي والديمغرافي مستقبل الكيان الجرثومي المرتقب.
7- جل الأنظمة العربية التي دخلت في حرب مع الكيان الصهيوني هي أنظمة انقلبت على وكلاء الاحتلال وسرعان ما تم تدجينها وتقليم أظافرها، ما يؤكد أن من أهم وظائف أنظمة سايكس-بيكو حماية هذا الكيان المدلل من طرف الغرب الإمبريالي.
8- أن منظمة التحرير الفلسطينية تأسست سنة 1964 قصد التحكم والسيطرة على فصائل المقاومة الفلسطينية التي انتشرت في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر، حيث عمد النظام المصري إلى تعيين مسؤول على المنظمة وتم استدعاء الفصائل المقاومة فأصبحت تحت السيطرة، لذلك نجد أن أنظمة العمالة تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني، لأن المنظمة وللأسف سوف تتحول تدريجيا من مقاومة المحتل إلى سلطة تحمي هذا الكيان، وتنسق معه استخباراتيا، بل وتقمع الفلسطينيين المقاومين وتودعهم سجن السلطة أو تسلمهم للمحتل العاصي.
9- عايشنا خلال العقدين الأخيرين كيف دمرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الثلاثون العراق، ونصبوا غازي العجيل الباور من على دبابة المحتل رئيسا عل جمهورية العراق ومن بعده الطالباني والمالكي. كما تابعنا نفس المشهد يتكرر في أفغانستان وبصورة فجة وجلية حين دمر الجيش الأمريكي أفغانستان وقتل الآلاف ونقل المئات إلى سجون غوانتنامو، وأتي برجل الأعمال الأمريكي الجنسية الأفغاني الأصل حميد كارازاي وفرضوه رئيسا على الأفغان باسم الدفاع عن القيم الإنسانية والديمقراطية. ولعله نفس السيناريو الذي سوف يتكرر خلال الانقلاب على ثورات الربيع العربي التي أفرزت قيادات من خارج المصنع السياسي الغربي؛ مثل الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمه الله والرئيس التونسي منصف المرزوقي واللذان أظهرا موقفا صارما تجاه حرب “إسرائيل“ على غزة سنة 2012، فكانت الواقعة بمثابة امتحان أدى إلى إسقاط مرسي وسجنه واغتياله، وأدى إلى تحريك دواليب الدولة العميقة في تونس لإلقاء المرزوقي خارج القصر الرئاسي وانتظار فرصة القضاء على كل ما أنجزته ثورة الياسمين بمجيء قيس سعيد، ليستعيد الغرب الإمبريالي هيمنته وسيطرته على المنطقة.
والسؤال: لماذا استحضار كل هذه المعطيات في هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي تعيشها الأمة عامة والمقاومة الفلسطينية خاصة في غزة؟
الجواب هو: عدم التعويل على أنظمة ومنظمات إقليمية أن تقوم بأدوار ووظائف مناقضة ومخالفة للأدوار التي وُجِدَت لأجلها، إننا بالإصرار على ذلك نكون كمن يريد أن يحول الجوارب إلى حواسيب.
إننا عندما نستحضر من الذي أنشأ الأنظمة العربية، وكيف أنشأها، ولماذا أنشأها، سنتوقف عن الجري وراء مطالبة الجيوش العربية لأنها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه وجد وظيفتها قمع الشعوب وحماية وكلاء الاستعمار الجاثمين على الرقاب والكراسي.
إن أحداث العقدين الأخيرين التي عرفتها الدول العربية والإسلامية تمنحنا القدرة على إعادة قراءة تاريخ الأمة المعاصر، لنقتنع بما لا يدع الشك أن كل الحكام الذين أعقبوا سقوط الدولة العثمانية ما هم إلا صورة بالأبيض والأسود اكتشفنا ألوانها في صورة كارازاي الأمريكي الجنسية الذي جاءت به الإدارة الأمريكية ونصبته رئيسا على أفغانستان لا ليحكمها بل لينفذ سياسات المحتل الأمريكي. إن كارازايات العصر من الحكام العرب ومنظماتهم الإقليمية إنما وُجِدَت لحفظ أمن واستمرار الكيان الصهيوني الذي يعتبره الغرب عمقا استراتيجيا له.
إنه لا مناص لكل الشعوب التواقة للتحرر أن تقلب هذه المعادلة التي فرضتها العصابة الدولية الحاكمة، وأن تسترد سيادتها من خلال تخليص الحكم من عملاء الاستعمار القديم الجديد، وأن تسعى إلى إعادة صياغة الخريطة العربية والإسلامية ومحو كل الحدود الوهمية التي سطرها سايكس وبيكو، ومن ثم امتلاك القدرة والإرادة على استعادة الدور التاريخي، والإعداد لمعركة التحرير الكبرى التي يتم فيها اقتلاع سرطان الصهيونية من كل جسد هذه الأمة.
لقد بدأت المقاومة الفلسطينية هذه العملية الجراحية التطهيرية، وكلما أحرزت نجاحات حفزت باقي الأمة على المضي قدما نحو تحرر شامل، لهذا السبب تعد معركة غزة مفصلية وفارقة، وهو ما عبر عنه النتن-ياهو عندما قال للحكام العرب “إذا انتصرت حماس سيكون الدور عليكم“.
والواقع يقول سيكون الدور عليكم جميعا؛ فإذا كانت المقاومة قد عرّت ضعف الكيان الصهيوني في معركة طوفان الأقصى، فإن ثورات الربيع العربي قد أظهرت هي الأخرى ضعف الأنظمة أمام الشعوب، وحركة التاريخ قد غيرت مجراها وما علينا إلا أن نلتقط هذه المؤشرات الربانية ونتخذ كل الأسباب الكفيلة لتحرير فلسطين وتحرير الأوطان واستعادة الدور الحضاري لخير أمة أخرجت للناس.