مطالبة بعض اللبنانيين بعودة “الانتداب” إلى بلدهم بعد فاجعة بيروت، من خلال توقيعهم على العريضة إياها، خطوة خطيرة تعبر عن الجرأة التي بلغها المساس بالثوابت المتعارف عليها على المستوى الكوني، لن نتحدث عن ثوابتهم المحلية التي بُذِلَ ما يكفي فيما مضى لتحطيمها. إذ ما من شعب في العالم يقبل أن يخضع طواعية لشعب آخر، ذلك أن البشرية ما توحدت في القرن الماضي على شيء قدر توحدها على فكرة التحرر الوطني. فكيف يقبل هؤلاء على أنفسهم أن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء؟
الواقع أن هناك نخبة لا تخفي ولاءاتها، والتي تتدثر بخلفيتها الطائفية حتى لو لم تمثل إلا أقلية داخلها، وهي تراهن على رد الفعل العنيف الذي تسببه استفزازاتها للآخر ويلحق عموم من ينتسب إلى طائفتها، لتجر إليها من كان مترددا منهم فتورطهم في احتراب يعطي غطاء لمغامراتها كما حدث في مرات عديدة، وما فعلته في عصر الانتداب وفي عصر الاجتياح الصهيوني للبنان واحتلال جنوبه يؤكد ذلك، غير أن المجاهرة اليوم بمثل هذا الموقف ومحاولة جعله تفويضا جماهيريا لشرعنة التدخل الفرنسي هو سابقة لها ما بعدها.
خطورة هذا التفويض ليست في قابلية تجسيده على أرض الواقع، فهو مجرد تعبير عن أحلام يقظة لأشخاص يندبون حظهم العاثر الذي ألقى بهم في هذا الشرق، لكنه مع ذلك يصب الزيت على النار ويزيد من ضغط القوى الإقليمية والدولية على لبنان، التي لا يمكن أن تترك للطرف الفرنسي فرصة الاستفراد به، الشيء الذي يزيد من متاعب هذا البلد الجريح.
لا شك أن رواج هذه الفكرة عند الجمهور الذي يتبناها ناجم عن استثمار فشل الدولة اللبنانية في الالتزام بواجباتها تجاه شعبها بعد عقود من استقلالها، فبدل التفكير في المستقبل عبر البحث عن سبل مواجهة التحديات المطروحة أمام اللبنانيين، وتحصيل استقلالهم الحقيقي ووحدة مجتمعهم وتأمين حقوقهم، والقضاء على الفساد المستشري في أجهزة دولتهم وفي سائر مؤسساتها، كان التفكير معكوسا، حيث اختار البعض العودة إلى الماضي وإعادة تقييمه بأثر رجعي والتشكيك في جدوى الاستقلال من الأصل.
الجدير بالذكر أن هذا الاتجاه الذي أفصح عن نفسه في لبنان مستغلا الاضطراب الأخير، هو اتجاه عام يحظى بالأنصار في المحيط العربي، فرغم الاختلافات والتناقضات الظاهرة بين مختلف الدول العربية، إلا أن فكرة تفضيل فترة الاحتلال على الاستقلال هي فكرة رائجة عند نخب وتيارات عديدة، لا سيما مع طغيان الفردانية التي تمجد الأنا وتقزم الشخص في همه الخبزي وغرائزه الحيوانية التي أدت به إلى الانسلاخ والتحلل من أية قيمة تعلي من كرامة الإنسان، فأية معركة ترتبط بالدفاع عن الكرامة حتى لو كانت تخص فردا بسيطا هي معركة عبثية، فبالأحرى إن تعلق الأمر بمواجهة الاستبداد المحلي أو الاحتلال الأجنبي.
على هذا الأساس تناسلت في الآونة الأخيرة تساؤلات كثيرة، تشكك في القيمة المضافة للاستقلال وفي المعنى من المقاومة، وتقارن بين أوضاع المقاومين وغيرهم من الانتهازيين من متصيدي الفرص بعد الاستقلال، متحدثة عن جحود الوطن وسذاجة من يضحي من أجله. وليس عبثا بعد ذلك أن تجد بعض الدول تستعيد عددا من مظاهر احتلالها، فتتغنى برموز محتلها وتعيد تدريس أبنائها بلغته مقابل إقبار رموز المقاومة وطمسهم من ذاكرة الشعب.
قد تبدو هذه التساؤلات للوهلة الأولى مشروعة، لكنها في حقيقة الأمر ليست إلا تدليسا يصدر ممن ترتبط مصالحهم الذاتية بأطراف خارجية، مستغلين موجات الإحباط واليأس التي أصابت شعوبنا. ذلك أنه ومع الإقرار بأن واقعنا رديء؛ إلا أن الماضي الاستعماري لم يكن أفضل حالا. فمشكلتنا أن ذاكرتنا انتقائية حيث نميل إلى التركيز على آلام اللحظة الراهنة، ونختزل الماضي فيما ترسمه مخيلتنا له مهملين وجهه القبيح، حيث ترسم الكائن الغربي بصورته في مجتمعه، فيظنون أن مجتمعاتنا ستتنعم بديمقراطيته المعدة لأبنائه حصرا، أو بخدماته وتجهيزاته الحديثة التي كان يوفرها لمستوطنيه أو لغاية استنزاف ثروات مستعمراته.
وليطرح على نفسه من لا يزال يحتفي ببناية أو شارع أو خط سككي أنشأه مستعمره السؤال حول مدى استفادة أبناء البلد من تلك التجهيزات، الذين كان حظهم هو السخرة والشقاء، فتم تجويعهم حتى يضمن لأبناء القارة العجوز رفاهيتها حتى لو ألقى بهم ذلك في شبح المجاعات. واهم إذا من يعتقد أن الدول الغربية خادمة لنا ولرغباتنا التي عجزنا عن تحقيقها بأيدينا، فطمع في أن تتولى القيام بها نيابة عنا كأنها مؤسسات خيرية. ولنا في الاحتلال الأمريكي للعراق مثال ساطع في هذا المضمار، حين تبخرت شعارات الحرية والديمقراطية التي كان يسوق بها احتلاله لصالح تفتيته للنسيج المجتمعي العراقي عبر التجييش الطائفي والحرب الأهلية والإفساد المالي حتى تحولت العراق إلى دولة فاشلة.
ندرك أن الظلم سابق لزمن الاحتلال ولن يزول بعده، وتلك مسألة طبيعية، فالتدافع بين الحق والباطل والصراع مع المستكبرين صراع أزلي وقدر كل جيل أن يواجهه بأدوات عصره، فمثلما تتطور أساليب الممانعة تتطور أساليب الاستغلال والعكس كذلك، فكلما أجهد الظالم نفسه في تحقيق أهدافه بالتحايل والخداع كلما عد هذا مكسبا شعبيا وضعفا من جانبه، إذ لا يخفي الظالم توحشه إلا في حالة اضطراره، حين لا تسعفه الظروف الموضوعية الراجعة بالأساس إلى مقاومة ضحاياه.
هكذا نفهم أن مرحلة انسحاب قوات الاحتلال العسكرية وعودة المستوطنين إلى بلدانهم الأصلية كانت مرحلة ضرورية، لكنها غير كافية لحيازة الاستقلال التام، لذلك فإن المطالبة بالرجوع إلى طقوس الإذلال المباشر، هو أمر مستهجن، حيث يمارس المحتل فوق نهبه لمقدرات البلاد عنصرية مقيتة واستعلاء عرقيا وثقافيا، يرسخ من خلاله فكرة تفوق المُستعمِر على المُستعمَر ويدخله دوامة الشك ويحطم معنوياته، بخلاف الوضع الراهن الذي يثبت، مع سلبياته، أن الشعب ليس راكدا حيث أنه أرغم المحتل على التواري، وهو أمر لا يروق له رغم استفادته من وضع السيطرة غير المباشرة على المشهد من وراء حجاب، بدليل أنه يتوق للعودة لممارسة طقوسه السادية كلما سنحت له الفرصة مثلما صنع الأمريكي مع سجناء “غوانتنامو” و”أبو غريب”.
قد يظن بعض اللبنانيين أنهم مختلفون بالنظر إلى ملامحهم أو انتمائهم الطائفي، وما زال فيهم من يعتقد أنه سيشفع لهم عند الغربيين، إلا أن النظرة الاستعمارية لها رأي آخر، فهي تعتبرهم مجرد كيان وظيفي يُدْفَعُ إلى المحرقة وكلما انتفت المصلحة يُرْفَعُ الغطاء عنه تماما كما حدث ما بعد اتفاق الطائف، حيث كانوا الخاسر الأكبر في معادلة الحكم وقتها، وهناك من يريدهم أن يلعبوا دورا مماثلا اليوم، وهو درس بليغ لهم ولباقي أبناء الطوائف الأخرى يجعل المخرج من أزماتهم في وحدتهم بعيدا عن نفوذ مختلف القوى الإقليمية والدولية.
لا نهون من الوضع الحالي ولا نقلل من دمويته ومن سوداويته، غير أننا نؤمن بأنه محطة انتقالية في إطار استكمال مشوار التحرير الكامل، الذي يتطلب تطوير أساليب مواجهة الأنظمة الاستبدادية المدعومة خارجيا، بدل التذمر والصدمة من تسلط أبناء البلد وكلاء الاستعمار. فالتغيير لن يتحقق ضربة لازب ووحدهم الغارقون في أوهامهم من تصوروا أن جنة الحرية ستفتح على مصراعيها بعد رحيل المستعمر مباشرة.