إذا كانت سنوات الماضي وأيامه ولياليه تعني فيما تعنيه مغربا ملؤه الظلم والقهر والفساد وانعدام الحرية والمساواة وفقدان أدنى مقومات العيش الكريم وغير ذلك مما له ارتباط وثيق بسياسة الفساد والإفساد وعقلية الفاسدين والمفسدين، فإن سنوات العهد الجديد باتت تعني فيما تعنيه نسخا مطابقا لأصل تلك الفترة الزمنية التي اتفق على تسميتها بسنوات الرصاص، فالمغرب الذي حلمت به فئات عريضة من الشعب، وسقطت من أجله قوافل الشهداء ليعيش أبناؤه أحرارا أبد الدهر، والمغرب الذي سطر له مناضلوه وشرفاؤه رؤى تغييرية دافعوا عنها بكل غال ونفيس، ليس هو المغرب الذي تنخر أعمدته اليوم آفات الجهل والأمية والتخلف والفقر والبؤس، وليس هو المغرب الذي يتربع على عروش أسفل سافلين في كل المجالات والميادين، وليس هو ذلك الوطن الذي يساس بالقمع ويسير بالعصا وتنتهك فيه الحقوق وتضيع فيه المكرمات ولا يحفظ فيه عرض إلا بشفاعة من صلة وصل بمراكز صنع القرار أو أمر من “أهل الفوق”، وليس هو ذلك الوطن الذي يضطر فيه المواطن المغلوب على أمره إلى البحث في براثينه عن وسيلة -كيفما كان نوعها وثمنها- كي يفر بها منه إلى رحاب أوطان أخرى تستقبله بالأحضان إذا ما رام طعنه أو التنكر له، وتصفعه أكثر من مرة إذا ما أراد الاحتماء بها من كيد الماكرين فيه والمتجبرين بربوعه وأنحائه.
المغرب اليوم بلد يغرد خارج سرب الأمم المتقدمة، لا تسمع عنه إلا دعارة ألصقها ساسته مع سبق الإصرار والترصد ببناته ونسائه، ولا يتكلم عنه إلا بكل ما تشمئز منه النفوس وتنفر منه الخواطر، ولا يصنف إلا ضمن الدول التي ينعدم فيها الأمن والسلم ويشيع بها الفساد بجميع أنواعه.
نعم مغرب اليوم هو مغرب الروتين القاتل والرتابة المميتة، لا جديد فيه إلا القديم، أخباره هي نفسها أخبار سنوات الرصاص، وأنباؤه هي كل ما جرى في الماضي، ومنجزاته ومشاريعه ما هي إلا تكرار لتلك الأيام البائدة، فالقتل في مخافر الشرطة هو هو لم يتغير ولم يسر إلى زوال، ولنا في قضية شهيد التعذيب بمدينة سلا الشاب “الفضيل أبركان” خير دليل ومثال، وقمع الجماعات المناضلة أو القرى المتظاهرة واستئصال الفرد المقاوم وتربص الدوائر بهؤلاء وبكل من حمل على أكتافه أو ردد بقوة اللسان وإحساس الجنان لاءات متعددة، وإعمار السجون بكل من وقف في يوم ما ضد مشروع إفسادي، لا تزال ليومنا هذا هي الخطط الوحيدة المسطرة لمواجهة هكذا وضع أو حدث، ولنا فيما وقع لسيدي إيفني وأخواتها خير دليل على ما نقول، ولنا فيما وقع لـ “شكيب الخياري” -وغيره كثير- خير برهان على استمرار الماضي فينا واستمرار نسخه بأبشع طريقة يمكن أن تتم بها عملية النسخ.
مغرب اليوم هو مغرب الملايين العاطلة عن العمل، الغارقة في بحار من المخدرات واليأس والملل، القابعة تحت خط الفقر والفاقة، الباحثة عن بارقة أمل وسط ملايين الوعود التي تطلق يمينا ويسارا ولا ينفذ منها إلا ما يخص أبناء الوزراء والمدراء والجنرالات والقادة وغيرهم ممن كتب عليهم الاغتناء بأموال الشعب والارتواء من دمه وعرقه والاستواء على الكراسي التي تنسج خيوط القرارات، وتجثم على أنفاس باقي الفئات من غير إحساس بالشفقة أو الرحمة.
مغرب اليوم مغرب هش من كل النواحي والزوايا، تتربص به الفتن آناء الليل وأطراف النهار، ويسعى إلى تمزيق وحدته من لا يدرك حلاوة الانتماء إلى الوطن ولا يعي معنى الوطنية وكنهها، وأدهى وأمر من هذا كله أن يكرم فيه الجلاد والزبانية ومن له قدم سبق في تسفيه المواطنين وإهانتهم ويذل فيه كل غيور شريف وأمين بتهم لا يستسيغها عقل ولا يقبلها حر.
مغرب اليوم ليس هو المغرب الذي كان ينشده لنا أجدادنا وآباؤنا، وليس هو المغرب الذي نبتغيه لأنفسنا وأبنائنا، وليس هو المغرب الذي نرتضيه لحاضرنا ومستقبلنا، فهل يدرك المسؤولون، المسؤولون عن هذا الروتين الذي نحياه صباح مساء، ما نرمي إليه من وراء هذه الكلمات فيشمرون عن سواعد الجد لبناء وطن لا رتابة تتجول فيه ولا يأس يعتقل أنفاس أبنائه وبناته.
المغرب الذي نريد هو ذلك المغرب الذي نسمع عنه في الخطب الرسمية وفي الخطابات التسكينية، مغرب يسيره أبناؤه لا الغرباء عنه، تسري بأرجائه الشفافية والمساواة، ويسهر على خيراته وإيراداته وكنوزه كل ذي فضل مشهور بالثقة غير مشار إليه بأصابع الاتهام، ويحتكم فيه إلى قوانين تخرج من رحم دستور تتفق على بنوده وفصوله كل مكونات الشعب وتراعى فيه مصلحة الوطن والمواطن أولا وأخيرا، وتنتهج فيه سياسات تبنى للمعلوم لا للمجهول تساهم في تنمية الأمة لا في نماء رصيد فرد أو ثلة أو فئة معينة، ويضرب فيه بيد من حديد على كل من يسعى في أرضه بالفساد والإفساد….
هذا هو المغرب الذي نريد، وهذا هو المغرب الذي نحلم به، فرجاء لا تمنعوا عنا الحلم بمثل هذا الوطن، ورجاء لا تقتلوا الأنفس ولا الآمال برتابة تحمل صبغة الماضي وطابع الحاضر وتسعى لأن تكون هي الخاتم الأساسي لهذا البلد وما ولد في مستقبل الأيام القادمة.