مغيب (قصة قصيرة)

Cover Image for مغيب (قصة قصيرة)
نشر بتاريخ

رشا هو اسمها، ومصدر فخرها بين فتيات القرية، فهو اسم عصري جميل وخفيف على الألسن، اختارته لها مولدة المركز -تقول أمها- لأنها أعجبت بجمال عينيها الخضراوين الواسعتين، وأما أخوها التوأم فقد اختار والدها أن يسميه على اسم جده أحمد. هذا ما كان يميزها عن فتيات قريتها، بالإضافة إلى فطنتها وألمعيتها وجدها واجتهادها في الدراسة، ماعدا ذلك فإنها تشاركهن في المعاناة من التهميش والإقصاء، واقتسام مهمات الرعي والحطب وجلب الماء مع إخوانهن، بالإضافة إلى المشاركة مع أمهاتهن في أشغال البيت من كنس وخبز..

اختارت رشا كالعادة ظل شجرة الخروب لتتخذها متكأ يحميها حر شمس الصيف، تراقب من هناك قطيعها الذي يبحث عن الكلإ في مرعى صيفي لا يكاد يجود إلا بالقليل، مع ذلك لا تفقد خرافها الأمل وترضى بالنصيب، كما لا تفقد هي الأمل وتطمح في أن يجود عليها المستقبل القادم بتحقيق أمنياتها البسيطة، التي تبدو لفتاة قروية كالجبال الراسيات.

تحت هذه الشجرة حيث اعتادت رشا أن تقاسمها أحلامها وأمانيها في كل عطلة مدرسية، ظلت تراقب خرافها، وتتأمل منذ طلوع الفجر منظر الشمس قبالتها وهي تتدرج في الصعود إلى عليائها، ومعها تبزغ أشعتها المشرقة الحارة التي ستتربع كبد السماء مع وقت الضحى، روتين عطلة الصيف، تتخير فيه للخراف والنعاج الوقت الذي تكون فيه أشعة الشمس أقل حدة وحرارة رحمة بقطيعها وبنفسها.

ظلت تراقب الشمس في السماء وهي متكئة على شجرة أسرارها، فمع إشراقتها يشرق الأمل في قلبها، لذلك كانت تحرص على عودة قطيعها قبل غروب الشمس وتهاب الظلام، وكأنها تربط بين إشراقتها وتحقق أحلامها الطفولية المزهرة، فرغم بعد المسافة التي تربط بيتها بالمدرسة، ورغم أنها كانت تعود مع أخيها أحمد في أحايين كثيرة في حالة يرثى لها، إما بسبب الأمطار التي تبلل ثيابهما وتثقل خطاهما بسبب الطمي الذي تحمله أحذيتهما، أو بسبب العطش أو الهروب من سحلية أو ثعبان في أيام الحر؛ فإن رباط الحب الذي جمع بينها وبين المدرسة وبين التلاميذ والمعلمين أقوى وأمتن من أن توهنه عاصفة مطرية أو ضربة شمس، أو انسداد الطريق، أو ظلام ما قبل الفجر.. رباط عضده الحب المتبادل والنتائج المشرفة المحصل عليها، والتي تؤكد أنها قطعت مع غياهب الأمية، وهي الآن بصدد استشراف مستقبل دراسي مبهج، هذا ما يؤكده ثناء المعلمين على سلوكها وكدها واجتهادها. كان لهذه السنة طعم خاص، فهي آخر سنة لها بالمدرسة الابتدائية؛ بعدما نجحت هي وأخوها التوأم بمعدل مشرف، بل تفوقت وحصلت على المركز الأول على صعيد المؤسسة.

لم تنتبه رشا إلا ونقطة عرق تنزل على خدها، وكأنها تخبرها أن وقت العودة قد حان، فالشمس حرارتها ملتهبة. جمعت رشا أغراضها – وهي عبارة عن كسرة خبز مدهونة بزيت، وبعض الزبيب، وقارورة ماء صغيرة – وضعتها في حقيبة ظهر صغيرة، كانت هدية من معلمتها، ثم اقتادت القطيع وعادت إلى البيت آملة أن تسمع من والدها الخبر السعيد، بأن دار الطالبة تفتح أبوابها لاستقبال تلميذات الإعدادي، أما أخوها فقد ضمن ذلك، ففي مركز القرية إعدادية بها مطعم ومسكن للتلاميذ الذكور، وهذا منذ ست سنوات خلت، لكن فتيات هذه القرية نصيبهن أن يتوقفن عن الدراسة عند آخر مستوى إشهادي في المدرسة الابتدائية.

لم تأخذ رشا حظها من الراحة حين وصلت مع قطيعها إلى البيت، ولم تتناول شيئا مما هيأته أمها من فطائر بالسمن والعسل مع شاي بالنعناع، لكنها فتحت باب الحظيرة للقطيع، وخرجت من الباب الكبير، حيث تحسب أن والدها سيدخل منه، تنتظر بلهفة الأخبار الجديدة، فالكل يقول إن دار الطالبة في طور البناء وستفتح أبوابها للتلميذات ليتابعن دراستهن أيضا.

لم يمر الوقت بسرعة – وهي تنتظر قدوم والدها – كما كانت متوقعة، تطلعت برأسها لتتأكد من الشخص القادم من بعيد، لكن عندما اقترب، عرفت أنه أحمد أخوها يحمل على الحمار الماء الصالح للشرب، وقد جلبه من الدواوير المجاورة حيث تتوفر بعض الآبار.

لم تعر رشا أخاها اهتماما كثيرا، وظلت مرابطة أمام البيت في انتظار الوالد، الذي تأخر على غير عادته. لم يتبق على آذان العصر إلا قليلا، فهل تعود إلى المرعى دون أن تتأكد من مصيرها الدراسي؟ ما العمل؟ تناسلت بعض الأسئلة في ذاكرتها، أوقفها نداء أمها تذكرها بضرورة تناول بعض الأكل قبل العودة بقطيعها:

– رشا، حان الوقت، لا بد أن تعودي بالقطيع إلى المرعى، وقبل ذلك يلزمك تناول الطعام.

لم يكن أمامها خيار سوى أن تلبي الأوامر، وتعود إلى مكانها المعتاد، حيث ترعى القطيع، وتناجي شجرتها وتراقب شمسها حتى لا تغيب، لكن هذه المرة غفت عينها وداعبتها أحلام كثيرة طارت بها إلى عوالم مختلفة؛ كلها براءة طفولية، وآمال مستقبلية، ودروب مضيئة، متوهجة الآفاق، حتى أيقظها من غفوتها بعد مغيب الشمس صوت الوالد يوبخها؛ لأنها نامت وتركت قطيعها يسرح بعيدا، ولولا وصوله لاقتحم حقول ذرة الجيران.

لم يقلق رشا صراخ والدها، ولم تكترث لابتعاد قطيعها، ولكنها وقفت مسرعة تسأل والدها عن مصير دراستها:

– آسفة لقد غفوت، وماذا عن دار الطالبة؟ ما هي الأخبار؟

كان جواب الوالد مقتضبا، زاد من لوعتها، وأشعل لهيب الحرقة والأسى في قلبها:

– ليس بعد يا ابنتي، لم يكتمل البناء بعد، لعل السنة القادمة ستفتح الدار أبوابها للفتيات.

#_التعليم_حق_للفتاة_القروية