مقدمة
كانت الأسرة وما تزال محلّ اهتمام الكثير من المتخصصين والمهتمين والباحثين، باعتبارها الخلية الأولى والرئيسية التي يتكون منها المجتمع. وهي أول وحدة عرفها الإنسان في حياته منذ أول زواج بين أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام. ثم تطورت لتنبثق عنها ومنها مؤسسات وتنظيمات اجتماعية عديدة ومختلفة في بنياتها وأحجامها وأنواعها ووظائفها وأدوارها.
ولا تزال الأسرة إلى اليوم في حالة تغير وتطور مستمرين وسط تجاذبات من أطراف عدة، بين من يريد الحفاظ عليها والبحث عن أسباب إسعاد من فيها، وبين من يريد القضاء عليها بتفكيكها وتشريد من فيها. فلننظر إلى المواثيق الدولية على النحو المذكور حاليا، كيف تتناول الأسرة بالشكل الذي يؤدي إلى القضاء عليها نهائيا من خلال ثلاثة مسارات، تعمل فيها الوثائق الدولية على نحو متواز:
المسار الأول: اللعب بمصطلح الأسرة وتغيير المفهوم.
المسار الثاني: تفكيك الأسرة القائمة بالفعل.
المسار الثالث: صرف الشباب عن إنشاء الأسرة ابتداءً.
فإحساسا بهذه الخطورة التي تهدد الأسرة المسلمة خاصة؛ جاءت هذه الحملة تحت شعار “الأسرة نعمة والزواج عبادة”. وإيمانا منا بأهمية هذه المبادرة الطيبة في ترسيخ دعائم الأسرة السعيدة، وتعبيرا عن الانخراط الفاعل، نشارك بهذا المقال المتواضع: “مقومات الأسرة المسلمة في زمن التحديات”.
مفهوم الأسرة
تتداخل العديد من التخصصات العلمية في تحديد مفهوم الأسرة منها: علم القانون، علم الاجتماع، علم الاقتصاد. رغم أن الأسرة في الظاهر معروفة لكل إنسان ولدى الجميع.
الأسرة في اللغة: هي الدرع الحصينة، وأهل الرجل وعشيرته. وتطلق على الجماعة التي يربطها أمر مشترك، وجمعها أُسَر. ومصطلح الأسرة مصطلح إنساني خاص بالإنسان فقط دون غيره.
الأسرة مشتقة من الأسْر يعني القيد، يقال: أسر أسْرا، وآسرا، قيّده وأسره، أخذه أسيرا. والأسْر أنواع، قد يكون إلزاميا كالأسر في الحروب، وقد يكون اختياريا يرضاه الإنسان لنفسه ويطلبه، لأنه في حاجة إليه، كالأسْر في الأسرة.
وفي الاصطلاح: جاء في معجم علم الاجتماع أن الأسرة هي عبارة عن جماعة من الأفراد يرتبطون معا بروابط الزواج والدم والتبني.
فمثلا عند المفكر (بوجاردوس bogardus): “الأسرة هي جماعة اجتماعية تتكون من الأب والأم وواحد أو أكثر من الأطفال يتبادلون الحب ويتقاسمون المسؤولية حتى تمكنهم من القيام بواجبهم وضبطهم، ليصبحوا أشخاصا يتصرفون بطريقة اجتماعية، ويكونون مع بعض وحدة اقتصادية، ويقيمون في مسكن واحد”.
أما عند (ويستر مارك) فإن “الأسرة تجمع طبيعي بين أشخاص جمعتهم روابط فألفوا وحدة معنوية ومادية. وهي أصغر الوحدات الاجتماعية التي يعرفها المجتمع الإنساني”.
الأسرة في الإسلام هي “الجماعة التي ارتبط ركناها -الزوج والزوجة- بالزواج الشرعي، والتزمت بالحقوق والواجبات بين طرفيها وما نتج عنها من ذرية، وما اتصل بها من أقارب”. وعلى هذا فإن الأسرة في الإسلام لها ركنان أساسيان هما: الزوج والزوجة، وركنان تابعان هما: الأولاد وذوي القربى 1.
مقومات الأسرة
تعتمد الأسرة للقيام بوظائفها على عدة مقومات لا يمكن الاستغناء عنها، ونجاحها في قيامها بهذه الوظائف مرتبط بمدى تكامل هذه المقومات. ويمكن أن نجملها فيما يلي:
أولا: المقوم الاقتصادي: إذ الاستقرار الأسري في جزئه الأكبر متوقف على الجانب المادي نسبيا.
ثانيا: المقوم الصحي: الاستقرار في الحياة الأسرية عن طريق الإنجاب متوقف أيضا على الصحة.
ثالثا: المقوم النفسي: وهو من أهم المقومات، فعندما تتوفر الأسرة على الاستقرار النفسي والعاطفي من حب وحنان واحتضان تكون الفاعلية أكثر والسلامة للأفراد كبيرة.
رابعا: المقوم الاجتماعي: الأسرة تعرف علاقتين، الأولى داخلية عن طريق تسهيل عملية اندماج الأطفال في المجتمع، والثانية خارجية عن طريق نقل ثقافة المجتمع إلى داخل الأسرة حتى يستوعبها الأطفال.
خامسا: المقوم الإيماني: وهو من أهم المقومات، يعطي للأسرة معنى الحياة الطيبة ويحميها من أن تعصف بها الرياح العاتية والآتية من الإعلام ومن المحاربين للقيم والمخربين للأسرة.
سادسا: المقوم الأخلاقي: يساهم في الاستقرار الأسري وفي الاستمرار وفي الفاعلية والإنتاجية وإعطاء النموذجية الدعوية.
زاد بعضهم عن هذه المقومات المذكرة مقومات أخرى لا تقل أهمية، منها:
المقوّم الحقوقي: لاستقرار الأسرة سن الشرع حقوقا لكل أطرافها (الزوج، الزوجة، الأبناء)، وأوجب عليهم ضمانَها والإحسانَ في أدائها.
المقوم الإداري: باعتبار الأسرة مؤسسة اجتماعية، فلا يستقيم أمرها إلا بتسيير إداري حكيم يوزع الأدوار ويحدد المسؤوليات ويضع البرامج لإنجاحها والخطط لحل الأزمات التي تعتريها.
المقوم المقاصدي: سطّر الإسلام لمؤسسة الأسرة مقاصد نبيلة يستفيد منها الأفراد والمجتمع: الإحصان والعفاف عن الوقوع في الفواحش، تحقيق الأمن والسكن النفسي، التنشئة الاجتماعية.
لكن الذي أعجبني في تحديد هذه المقومات بشكل دقيق وعميق ومنهاجي هي الأستاذة بهيجة الشدادي في درس حسني، فقد حددتها في ثلاث فقط لكنها كافية وجامعة مانعة. أحاول تلخيص ما أوردته في هذا الدرس في مايلي:
المقوم الأول: تأسيسي، متعلق بعقد الزواج، الذي يشكل أحد المقومات الثلاثة للأسرة، ذلك أن الحياة الطيبة التي أرادها الله للأسرة المسلمة مقصد أحاطه الله بعناية تشريعية دقيقة ففرض التعاقد بين الزوجين وفق أركان للعقد ووفق شروط وضوابط راعى فيها مصلحة الزوجين أولا، ثم مصلحة الأسرة برمتها، أي تحقيق مصلحة أفرادها جميعا أيا كانت صفتهم الأسرية، وحفظ علاقاتها جميعا أيا كانت طبيعتها، ولذلك الإخلال بتلك الأركان والشروط والضوابط يترتب عليه إخلال بحياة الأزواج وأولادهم وأخلاقهم وحقوقهم، وإخلال بحقوق ذوي القربى وأولي الأرحام.
وكما هو معروف فإن لعقد الزواج في الإسلام معالم يعرف بها، ومنها أربعة تتمثل في: أحكام العقد، وقصد العاقد، وتميز عقد الزواج، وعظم العقد ورفعته.
فبخصوص أحكام العقد، فإن الإسلام ضبط عقد الزواج وحصنه بأركان وشروط، وترك مع ذلك للمتعاقدين مجالا للاختيار والاشتراط، وهو ما يجعله متصفا بصفة الثبات والمرونة في نفس الوقت، فإن الشريعة والفقه عنيا في العقد بما قبل التعاقد، وهي مقدمات العقد بما يمهد لنشأة صحيحة للأسرة.
أما في ما يتعلق بقصد العاقد، فإن الإسلام جعل للعقد مقاصد وأمر العاقد أن يقصد تحقيقها وألا يقصد قصدا مناقضا لها.
وفوق عناية الإسلام بعقد الزواج، ظاهرا وباطنا، وتأكيده لخصوصيته، فقد سما به وجعله أرقى ما يمكن أن يتعاقد عليه الناس وأعظمه حرمة حتى سماه الله ميثاقا غليظا، وهي الصفة التي لم يستعملها القرآن إلا فيما كان مواثقة بينه بين عباده المصطفين تنبيها على سموه وجديته.
المقوم الثاني: تأطيري، متعلق بحدود الله، فإن كان عقد الزواج في الإسلام هو الذي ينشئ الصحبة المشروعة بين الرجل والمرأة، فإنه ليس إلا الخطوة الأولى في الزواج الإسلامي، مضيفة أن الخطوة الثانية هي تنظيم الإسلام للعلاقة بين الزوجين وتأطيره إياها تأطيرا يخرجها من الحرية المطلقة إلى الحرية المنضبطة والمسؤولة في إطار ما سماه القرآن الكريم “حدود الله”، وهي الحدود التي تضمن للأسرة التي تقيمها الاستقرار وتصون حقوق أفرادها من العدوان.
المقوم الثالث: تدبيري، متعلق بالقيم، فإن قيم الأسرة هي ما أرشد اللهُ إليها ورسولُه صلى الله عليه وسلم، من المبادئ التي توجه فكر الزوجين وسلوكهما وتدبيرهما الأسري بما يجعل صفة المودة والرحمة صفة راسخة في حياتهما المشتركة.
إن الحياة الأسرية تغدو بالقيم أيسر وأجمل وتحقق مصلحتين كبيرتين هما: المصالح الحاجية التي تجلب التوسعة والتيسير للأسرة ورفع الضيق عنها، والمصالح التحسينية التي ترقى بها الحياة الأسرية إلى مقام أزكى وأطهر.
كما أن الجمع بين المصالح التحسينية والمصالح الحاجية يمكّن الحياة الأسرية من بلوغ الغاية في الكمال لتكون “أقوم وأقسط، وأيسر وأسهل، وأجمل وألطف”. وهذا يبين أهمية ارتباط المقوم التدبيري الذي هو القيم بالمقوم التأطيري الذي هو حدود الله.
والقيم التي يمكن أن ترتقي بالأسرة إلى أعلى مراتب المودة والرحمة أربعة منها بالخصوص:
الأولى: السماحة: وهي لين وسهولة في حياة الفرد وملاينة ومساهلة في حياة الأسرة، والأوْلى من خوطب بها في القرآن الكريم هم الرجال.
الثانية: التراضي: وهي قيمة مؤكدة في القرآن جعلها الله وسيلة تدبر بها الأسرة شؤونها وتعبد بها طريقها وتذلل بها الصعوبات.
الثالثة: الأناة: وهي خصلة نفسية تحمل صاحبها على التمهل في أموره، وتجعل الأسرة تتفادى الحرج والضيق والمشقة التي تنتج عادة عن العجلة، وتدرأ عنها المنغصات والندم والحسرة والآلام التي تستقبح معها العشرة وتكره.
الرابعة: الإيجابية: وتعني أن المؤمن يستقبل ما قد يقع من مكروه في حياته بنفس مطمئنة راضية بقضاء الله مؤمنة بأن وراء ما يقع خير وإن لم تدركه.
والذي يكفل انتقال هذه القيم من الآباء إلى الأولاد هو القدوة وإعطاء المثال، أي ممارستها عمليا وبشكل مطرد في الحياة الزوجية، لا مجرد الإرشاد إلى فضلها وذلك لأن دلالة الحال أبلغ من دلالة المقال.
ونخلص من كل ما سبق إلى أن الله تعالى جعل تنفيذ تشريعاته ووصاياه الأسرية وتحقيق مقاصدها رهينا بوسيلتين متكاملتين هما: الإيمان والقضاء.
فالإيمان بالله واليوم الآخر يحجز صاحبه عن الظلم الخفي الذي يتعذر إثباته بوسيلة من الوسائل، ويدفع صاحبه إلى الارتقاء من درجة العدل وكف الأذى واجتناب التحايل، وهو الحد الأدنى المطلوب في العلاقات الأسرية، إلى درجة الإحسان الذي لا حد لكماله.
خاتمة
وفي الختام؛ ختم الله لنا ولكم بالحسنى وزيادة، نكون قد أدلينا بمجموعة من الأفكار حول مقومات الأسرة المسلمة وما يقتضيه بناؤها واستقرارها من وعي تام وعلم شامل، ومن اهتمام بالغ وجهد كامل، من كل أفرادها، قصد بناء مستقر واحتضان مستمر للحفاظ على سلامة الفطرة وتخريج أجيال من الناشئة الصالحة والمصلحة التي ستعمل بالتربية والتعليم، وبالاجتهاد والجهاد على تحقيق العمران الأخوي.