من التحنُّث في غار حراء إلى الرباط في أنفاق غزة.. إرهاصات ميلاد أمة تتجدّد

Cover Image for من التحنُّث في غار حراء إلى الرباط في أنفاق غزة.. إرهاصات ميلاد أمة تتجدّد
نشر بتاريخ

التغيير يبدأ من نفس الإنسان، فمما “يخطر في أعماقها، وما يروج من نيات، وما يُبْرم من عزمات… من جذور ما في القلوب يتحدَّدُ موقف الأفراد، ومن المواقف الفردية تتجمع مقومات الموقف الجماعي والحركة الاجتماعية” 1.

والتغيير له قوانين، والتاريخ مصدر من مصادر استنباط تلك القوانين. والعبرة في التاريخ بالثابت لا بالمتغيّر، والثابت هو “الفطرة الإنسانية المغروزة في النفوس، وثبات الحاجـات الاقتصادية للإنسان، وثبات الدوافع الاجتماعية والسياسية…” 2. والمتغير هو أشكال ووسائل الاستجابة للخصائص النفسية وللحاجات الاقتصادية وللدوافع الاجتماعية.

 والمُسْتقرِئ للتاريخ يجد أن المنعطفات الإيجابية الكبرى في تاريخ الأمة بدأت برجال عكفوا على تقويم نفوسهم، ثم خرجوا إلى الناس ليقودوا موجة التغيير. وهذا هو المنهج ذاته الذي بدأ به أمر هذه الأمة.

كيف بدأ الميلاد الأول للأمة؟

(كانَ أوَّلَ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ ﷺ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ… ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلَاءُ، فَكانَ يَلْحَقُ بغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ 3 فيه اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلى أهْلِهِ ويَتَزَوَّد لذلكَ… حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ، وهو في غَارِ حِرَاءٍ) 4. وفي هذا الحديث نقف عند (حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلَاءُ) و(يَتَحَنَّثُ فيه اللَّيَالِيَ). ف (حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلَاءُ) يعني حُبِّبَتت إليه ﷺ العزلة، وبناء الفعل للمجهول في حقه ﷺ يعني أن التدبير من الله تعالى. أما السّر في ذكر الليالي فقد بيّنته ثالث السور القرآنية نزولا: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا[المزمل: 1-6]، وناشئة الليل هي “العبادة التي تنشأ بالليل” 5، وتخصيصها بالذكر يعود لكونها (أشد وطئا وأعمق أثرا في تزكية النفوس وصقل مرآة القلب، وتقويم معوجات النفس) 6. وقد فُرِضت ناشئة الليل على المسلمين قبل فرض الصلوات الخمس. (كانت فرضا في بداية الإسلام، وهي سنة لكل تائب جاد).

كيف بدأت بعض محاولات التجديد

شهد التاريخ الإسلامي عدة محاولات لإعادة بعث الأمة من جديد، منها ما كان ذا طبيعة عسكرية، بانقلاب دولة حديثة على دولة قديمة، ومنها ما كان ذا طبيعة فكرية، كما هو شأن مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، والتي اهتمت بكيفية تحقيق المسلمين للتقدم “الحضاري” المادي مع المحافظة على خصوصيتهم. ومنها ما كان ذا طبيعة تربوية، كمدرسة الغزالي والجيلاني والبنا وغيرهم.

وفي هذا المقال سنقف عند ثلاث تجارب: الأولى كانت نتائجها تحرير القدس وتخصيص باب وحارة للمغاربة، والثانية كان من نتائجها استعادة الأندلس ووصول المغاربة إلى جنوب فرنسا، والثالثة كان من نتائجها طوفان الأقصى وبداية العد العكسي لزوال “الكيان” وتحرُّر الأمة وانبعاثها من جديد.

من رباط الإمام عبد القادر الجيلاني إلى تحرير القدس وتخصيص باب وحارة للمغاربة

الكثيرون يعرفون قصة إرسال صلاح الدين الأيوبي طلب مدد إلى يعقوب المنصور الموحدي (ت595ه)، لكن الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن مدارس الإمام عبد القادر الجيلاني ومثيلاتها هي التي كانت تغيِّر ما في القلوب من وهن وشح وأنانية… وكانت تصنع الرجال في الميدان، من جبال هكاري جنوب شرق الأناضول إلى المغرب الأقصى. وكان الذي عبأ طلبة العلم والمجاهدين المغاربة، وبث فيهم روح الجهاد والاستشهاد، وشارك في الصفوف الأمامية، وفقد ذراعه في حطين 583ه، هو الشيخ أبو مدين شعيب الغوث 7(520 – 594ه)، (وهو حلقة في سلسلة أسانيد التربية بين كثير من المغاربة ورسول الله ﷺ مرورا بالإمام عبد القادر الجيلاني(470_561ه)، وقد بدأت قصته مع القدس بعد حضوره (مؤتمرا عالميا) في الحج (برئاسة) الإمام الجيلاني. وقد كانت رحلته تلك إلى الحج، كعادة العلماء في ذلك الزمان، مناسَبة له لأخذ العلم والحديث والتصوف عن الجيلاني 8. للمزيد أنظر 9

من رباط عبد الله بن ياسين إلى تحرير الأندلس من ملوك الطوائف والوصول إلى جنوب فرنسا

بدأ عبد الله بن ياسين بالتعريف بالإسلام إلى أن اصطدم بوجهاء القبائل، وتعرَّض للتضييق، وحاولوا قتله، وهدموا بيته، مما اضطره إلى الهجرة إلى (جزيرة)، وهناك بدأ مرحلة جديدة من البناء، فأسس رباطاً لتربية الرجال، وبدأت المرابطة بسبعة أشخاص، وأقاموا في رباطهم ثلاثة أشهر دون أن ينضم إليهم أحد، وكانت ثمرة هذا الرباط طليعة قوية متماسكة أَلَّفت حولها (حاضنة شعبية)، وقد تحدث المؤرخون عن هذه الطليعة من المرابطين (وأوردوا كثيراً من ضروب الشجاعة والإقدام… فكانوا أثبت من الهضاب ولم يحفظ لهم فرار من زحف) 10. ومن ثمار ذلك الرباط يوسفُ ابن تاشفين الذي وحَّد القبائل المتناحرة، وأسس دولة قوية، ووحّد الأندلس بعد تقسيمها بين ملوك الطوائف الذين ما زال المثلُ يُضرَب بهم في الفرقة والتشتُّت. للمزيد أنظر 11

من أحمد ياسين إلى الرباط بأنفاق غزة إلى طوفان الأقصى

حركة حماس التي أذهلت العالم في السابع من أكتوبر بدأت منذ أقل من 40 سنة بلاجِئ من أصول متواضعة يعاني من شلل رباعي. بدأت بالشيخ المجاهد أحمد ياسين الذي قاد بكرسيّه المتحرك حركة محاصرة براً وبحراً وجواً، في مساحة أصغر من مساحة القاهرة. فكانت “حماس” مدرسة ربَّت الرجال، والتربية أصعب من إزالة الجبال، ففي المثل (تزول الجبال ولا تزول الطبيعة). ثم حفرت الأنفاق وأعدت المستطاع من القوة، ثم فاجأت العالم بتخطيطها، وتحدّت الكيان المحتل في الوقت الذي يخاطب فيه كل زعماء العالم ودّه، ثم هزمت الصهيونية والغرب بصمودها، ودشنت بداية انهيار العلو الثاني لليهود، وبداية التأسيس للرشد الثاني لهذه الأمة.

القاسم المشترك بين هذه التجارب

القاسم المشترك بين هذه التجارب هو أنها بدأت برجال عكفوا على تزكية أنفسهم قبل الدخول إلى ميدان التدافع وأثناءه وبعده. ويسمي بعضهم هذه التجربة بمبدأ (الانسحاب ثم العودة)؛ أي يركز أصحابه على خاصة أنفسهم حتى إذا صفت عادوا إلى المجتمع من جديد ليسهموا في إصلاحه 12. وسندهم في ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن منطلق كل تغيير هو نفس الإنسان، وأن (تغيير الهياكل إن لم يصحبه تغيير الإنسان ويسايره تضييع للجهد في دوامة التجارب الفاشلة) 13.


[1] ياسين، عبد السلام: سنة الله، ص 54.
[2] المصدر نفسه.
[3] التَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ، وحقيقة التحنث في الأصل التجنب عن الحنث أي: الإثم فكان المتعبد يلقي الإثم عن نفسه بالعبادة.
[4] رواه البخاري في صحيحه.
[5] أنظر تفسير الآية في مدارك التنزيل للنسفي.
[6] ياسين، عبد السلام: محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص33.
[7] أبو مدين شعيب الغوث (520 – 594هـ) / (1123 – 1197م)، ولد بالأندلس، ثم رحل إلى المغرب ودرس بفاس، ثم استقر ببجاية بالجزائر حيث أسس مدرسة صوفية، أخرجت – حسب مصادر تاريخية المئات من مشايخ التصوف، وهو حلقة في سند الطريقة الشاذلية لأبي الحسن الشاذلي الذي أخذ عن الشيخ عبد السلام بن مشيش عن أبي مدين شعيب عن عبد القادر الجيلاني، – http://revue.umc.edu.dz/index.php/h/article/view/1169/1277.
[8] محمود، عبد الحليم: أبو مدين الغوث: دار المعارف، القاهرة، ص53.
[9] https://islamanar.com/recommendation-of-souls-and-historical-effectiveness-2/.
[10] محمود، حسن أحمد: قيام دولة الم ا ربطين صفحة مشرقة من تاريخ المغرب في العصور الوسطى، ص 159.
[11] https://islamanar.com/soul-purification/.
[12] انظر الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين الأيوبي، وهكذا عادت القدس، ص156 و97.
[13] ياسين، عبد السلام: المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص261.