من التقاعد إلى التعاقد

Cover Image for من التقاعد إلى التعاقد
نشر بتاريخ

كلمتان متقاربتان من حيث المبنى، مختلفتان من حيث المعنى، الأولى من جذر: قعد. الذي من معانيه حسب معاجم اللغة؛ الجلوس بعد القيام والتخلف بعد المشاركة، وردت الكلمة بمختلف مشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من 20 مرة، ويغلب على ورودها مقام الذم من ذلك قول الله عز وجل: إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ(التوبة آية: 83). أما كلمة عقد فتفيد الربط والإبرام والوثاق، وردت بدورها في القرآن الكريم بصيغ مختلفة 7 مرات، من ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ..(النساء آية: 33). هذا من الناحية اللغوية، أما من حيث الاصطلاح فالتقاعد يشير إلى مرحلة من مراحل عمر الإنسان التي هي بلوغ سن التوقف عن مزاولة العمل بسبب كبر السن. أما التعاقد فتشير إلى بداية العمل والنشاط من خلال إبرام عقد والتزام بموجبه يكلف المعني بالأمر بتحمل المسؤولية في أمر ما. وهل نستطيع إيجاد علاقة بين الكلمتين غير اشتراكهما في اللفظ وكونهما من الفعل الثلاثي؟ فنقول مثلا: ما الكلمة التي تسبق الأخرى التقاعد أم التعاقد؟ المنطق يقول التعاقد يسبق التقاعد، لأن التعاقد يشير إلى بداية العمل والنشاط، أما التقاعد فهو الانتهاء من العمل والمسؤولية، هذا ما يفيده المنطق والعقل. لكن عنوان هذا المقال يُفهم منه عكس ما ذكر، إلى هنا ما يزال الغموض حاصلا. هل نتحدث عن مواصلة العمل بعد التقاعد عن طريق التعاقد مثلا كما يحدث في بعض المهام والمسؤوليات، فنجدهم مثلا يفتعلون القوانين أو يتحايلون عليها فيستمرون في وظائفهم بطرق ملتوية، في حين يمنع الشباب من التوظيف بحجة تجاوز العقد الثالث، ليفسح المجال لمن تجاوز العقد السادس، هي تناقضات حاصلة في دنيا الناس. هذا موضوع آخر يستحق الكتابة، لكنني في هذا المقال أروم شيئا آخر وأكبر.

أيها المتقاعد من الوظيفة إياك أعني بهذا المقال، لقد انصرم العمر بسرعة وبارك الله في عمرك حتى تجاوزت الستين، وقد مررت في هذه المدة بمراحل ومنعطفات مهمة في حياتك قبل أن تتقاعد، لقد كنت طفلا ثم يافعا ثم شابا يحذوك الأمل لتحقيق طموحات، ولقد حققت والحمد لله بالفعل الكثير منها، لقد حصلت على شهادات خولتك أن تلج الوظيفة تكسب منها المال من أجل أن تنشئ الأسرة ويكون لك أولاد ومسكن وسيارة… وتَحقق لك الكثير من ذلك والحمد لله من فضله، ومن المتقاعدين من لا تزال طموحاته تتعدى شخصه إلى أولاده ولربما إلى أحفاده، من أجل أن يكون لهم مستقبل زاهر بدورهم يحققون فيه نفس الطموحات بل أكثر مما لم يستطع تحقيقه هو، هكذا دورات الحياة وتسلسلها، تسلمك حلقة إلى أخرى، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، دون أن تنقضي الطموحات. دعني أسألك سيدي: هل أنت مقتنع بهذا المسار الأرضي أم لك حاجات وأهداف أخرى غير هذه الأهداف الدنيوية التي تستنزف عمري وعمرك ولا تنتهي؟ لقد انتهيت من التعاقد مع الدولة أو مع مؤسسات خاصة، ووصل بك المطاف إلى التقاعد بحمد الله، وأنا لا أدعوك من أجل مواصلة العمل عبر التعاقد مرة أخرى لكسب مزيد من المال، ولكنني أدعوك إلى التعاقد من نوع آخر التعاقد ليس مع البشر ولكن مع خالق البشر سبحانه وتعالى، من أجل إنهاء المشوار -ولابد من إنهائه- بما يرضي الله تعالى، لاستدراك ما يمكن استدراكه من تفريط في جنب الله، حتى لانغادر الحياة ونحن نادمون، حيث لاينفع الندم. ما أحوجنا إلى التعاقد مع الله؛ طلبا لحسن الخاتمة فالعبرة كما يقال بالخواتيم، والعبد يبعث على مامات عليه كما في الحديث: “يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه” 1. وفي رواية أخرى زيادة: المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه.

الفرصة سانحة والحمد لله ما دام في العمر بقية، والحق سبحانه وتعالى يفتح باب التوبة أمام عبده على مصراعيه، ولا يُورَب دونه مالم يُغرغِر، فحي على العمل فلا تضيع الفرصة المتاحة أمامك فلا ينبغي أن تهتم في هذه المرحلة إلا بصحتك أولا باعتبارها وعاء العمل وشرطه، وحياتك الإيمانية ثانيا، من أجل الانتصار على التحديات والعقبات، وأكبر العقبات العادات الجارفة، والنفس التي بين جنبيك، ففي (الزهد الكبير) للبيهقي نقرأ حديثا مرفوعا عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ” 2. لقد وصف الله تعالى النفس بالأمارة بالسوء، وقال أيضا: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ(النازعات، آية: 39). فهي دائما تميل إلى الراحة والكسل وو..

أخي العزيز: أخاطب نفسي أولا ومن خلالها أخاطب الأحبة وأدعوهم إلى عقد العزم وأخذ العهد على توثيق الصلة بالله تعالى، بمزيد من الطاعات كما وكيفا، والإقبال على الله بما يرضيه قدر المستطاع، وأظن أن الكثير منكم سائر في هذا الطريق، المهم من هذا كله رفع السقف من مستوى الاهتمام إلى مستوى التهمم المصحوب بالهمة والفعل، من أجل حسن الخاتمة، فكما يقال العبرة بالخواتيم وفي الحديث أيضا: “خيركم من طال عمره وحسن عمله” 3. ومن زاد عمره على الستين فقد طال عمره، يجب عليه أن يشمر على ساعد الجد حتى لا يكون من الذين أقيمت عليهم الحجة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعذر الله إلى امرئ أجله حتى بلّغه ستين سنة” 4 نعم، أقيمت الحجة ولم يعد هناك مبرر للتهاون، وحتى لا نندم ونقول بعد خروج الروح: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ فيقال لهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ(فاطر، أية: 37). المطلوب إذاً هو تجديد النية وعقد العزم على الاجتهاد في الطاعات اللازمة والمتعدية، أعني باللازمة العبادات التي لا ينتفع بها غيرك مثل الصلاة والزكاة والحج والذكر والقرآن… أما المتعدية فالمقصود بها التي يتعدى نفعها إلى غيرك من أعمال البر والإحسان كالانخراط في العمل الاجتماعي والخيري للمساهمة في تفريج كرب المكروبين وسد جوعة الجائعين وإعانة المحتاجين وتعليم الجهلاء وهداية الحيارى… فهي من الأهمية بمكان إلى درجة أن الفقهاء عندما يقارنون بين العبادات من حيث الأجر مثلا يقولون العبادات المتعدية أفضل من العبادات اللازمة. والنصوص المؤكدة لهذا الأمر كثيرة أكتفي بحديث شامل كامل في الباب، وهو عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهرا..” هذا الحديث كاف لبيان أهمية فعل الخيرات بانواعها المختلفة. لما فيها من إدخال السرور على المهمومين والمكروبين كيفما كانوا.

فإذا فٌهم مرادي من هذا التذكير فلا أريد أن أثقل على من يقرأ لي بمزيد من الكلام، ولكن أستسمح منكم سادتي، بقي سؤال معلق ومعقول يتبادر إلى الذهن مجمله، كيف الطريق إلى ما ذكر أعني توثيق الصلة بالله تعالى؟ خاصة أن مطالب الوعاظ والخطباء كثير ة ومتنوعة إلى حد التخمة وإلى درجة التنافر والتناقض، بالنظر إلى ما تحمله الشبكة العنكبوتية يوما بعد يوم، فمن نصدق ومن نكذب بعد هذا التعدد والتشعب، وضف إلى ذلك، أن القوة خارت والعمر مدبر والعوائق متنوعة كيف السبيل إلى الاستقامة على أمر الله ونهيه، كما يحب ربنا ويرضاه؟ الجواب كل واحد يستطيع أن يميز بين الخطاب الإيجابي الذي يبني ويؤسس، وبين الخطاب الذي يهدم ويشوش. لأن مَن أخاطب بهذا المقال يفترض أنهم يمتلكون تجربة وعلما متزنا وفكرا ناضجا لن يكونوا لقمة سائغة للأفكار السلبية الشاذة، وبناء على ما ذكر فسأحسن الظن بأحبابي ولن أدخل معهم هاته المتاهات وأكتفي بالبحث عن الجواب المقترح على السؤال المطروح في الفقرة الأخيرة من هذا الموضوع.

خاتمـــــــــــــة 

نعم لن أتوسع في البحث عن الجواب ولكنني ألخصه في نقاط أربع هي مخرجات هذه التأملات في نظري المتواضع:

أولها: الحرص على الحفاظ على الصحة الجسمية والعقلية فهي الأساس وهي المحور للحياة ولا يتم ذلك إلا بمجموعة من القواعد الأساسية أهمها ثلاث مسائل: الحركة، التغذية الصحية، وتجنب التوترات المختلفة الناتجة عن الاحتكاك اليومي داخل الأسرة وخارجها، وليكن شعارنا: كل شيء يهون مقابل الحفاظ على الصحة. فبدونها لا أمل ولا عمل يرجى.

ثانيها: التخلص من كافة المظالم المتعلقة بذمتك من أي كان، مع تحسين علاقتك بعباد الله خاصة منهم ذوي الأرحام الأقرب فالأقرب. تجنبا للمنغصات وتأنيب الضمير.

ثالثها: انشغل بنفسك، وأقبل على الطاعات بكل أنواعها ما استطعت وعلى رأس ذلك كله كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلن يضل من تمسك بهما أبدا.

رابعها: البحث عن صحبة صالحة تنشط داخلها، تحملك إذا زللت وتذكرك إذا غفلت، وتعينك إذا هممت، قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ(الكهف، جزء من آية: 29) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” 5. وقال أحد العارفين: “اصحب من ينهض بك حاله ويدلك على الله مقاله”. وقد قيل الصحبة مفتاح والصاحب ساحب، اللهم ارزقنا الكينونة مع المؤمنين الصادقين. دمتم في رعاية الله وحفظه، وبارك الله في الأعمار والأعمال. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1] صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رقم الحديث: 2878
[2] رواه البيهقي في الزهد الكبير عن ابن عباس مرفوعا رقم: 354. ومن المحدثين من ضعفه لكن الجميع متفق على مجاهدة النفس
[3] رواه الترمذي، باب ماجاء في طول العمررقم: 2329 وأحمد رقم: 17680
[4] رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه تحت رقم: 6419.
[5] رواه أبو داود والترمذي وأحمد واللفظ له تحت رقم: 8398