شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل رحلة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى المبارك بالقدس الشريف. وشاء الحق سبحانه وتعالى أيضا أن يخلد هذه الذكرى بربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى من خلال تسمية سورة من القرآن الكريم تتلى آناء الليل وأطراف النهار إلى يوم القيامة، يقول سبحانه وتعالى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 1. من خلال هذه الآية من سورة الإسراء شكل المسجد الحرام بمكة المكرمة منطلق رحلة الإسراء الأرضية وشكل المسجد الأقصى منطلق رحلة المعراج وبابها إلى السماء.
وقد تناول علماء الأمة دلالات الإسراء والمعراج والدروس المستفادة منها عموما، والارتباط المقدس بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى على وجه الخصوص في ذكرى تتجدد، ودلالات تتعدد، نذكر منها:
1ـ اقترانهما من حيث التأسيس والتوافق الزمني: فأول مسجد أسس ووضع على الأرض هو المسجد الحرام، وثاني مسجد أسس هو المسجد الأقصى، وبينهما مسيرة أربعين عاما، فعن أَبَي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: “قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ. قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصَى. قُلتُ: كَمْ كانَ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أَرْبَعُونَ، ثُمَّ قالَ: حَيْثُما أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، والأرْضُ لكَ مَسْجِدٌ” 2. ووقع الاختلاف بين العلماء في أول من أسس المسجد الأقصى، فمنهم من قال بأنه سيدنا آدم عليه السلام، ومنهم من قال الملائكة، ومنهم من قال بأنه سام بن نوح عليه السلام، ومنهم من قال بأنه يعقوب عليه السلام، ومنهم من ذهب إلى أن سيدنا إبراهيم وسيدنا سليمان عليهما السلام هما من جددا بناءه الأول.
2ـ اقترانهما من حيث الفضل وشد الرحال: أما من حيث الفضل وشد الرحال فإن المسجد الحرام والمسجد الأقصى هما من المساجد الثلاثة التي خصهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فَضْلُ الصلاةِ في المسجدِ الحرامِ على غيرِه مائةُ ألفِ صلاةٍ، وفي مَسْجِدِي ألْفُ صلاةٍ، وفي مَسْجِدِ بيتِ المَقْدِسِ خَمْسُمِائةِ صلاةٍ” 3، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تشدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثلاثةِ مساجدَ مسجدِ الحرامِ ومسجدي هذا ومسجدِ الأقصى” 4. وقد ترك لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال هذا الحديث الشريف بابا عظيما يربطنا بالمسجد الأقصى المبارك وهو شد الرحال إليه والصلاة فيه، لكن بعد تحريره من الاحتلال الصهيوني الغاشم. يقول ‘ابن قيم الجوزية’ “فالقصد إِلَيْهِ ليصلى فِيهِ بَاقٍ وَهُوَ نوع من تَعْظِيمه وتشريفه بِالصَّلَاةِ فِيهِ والتوجه إِلَيْهِ قصدا لفضيلته وشرعه لَهُ نِسْبَة من التَّوَجُّه إِلَيْهِ بالاستقبال بالصلوات فَقدم الْبَيْت الْحَرَام عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَال لِأَن مصْلحَته أعظم وأكمل وَبَقِي قَصده وَشد الرّحال إِلَيْهِ وَالصَّلَاة فِيهِ منشأ للْمصْلحَة فتمت للْأمة المحمدية المصلحتان المتعلقتان بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَهَذَا نِهَايَة مَا يكون من اللطف وَتَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها” 5.
3ـ اقترانهما من حيث قبلة الصلاة وشمولية وختام الرسالات: فمن حيث قبلة الصلاة فقد كان المسجد الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى للصلاة، ثم تحولت بعد ذلك للمسجد الحرام، يقول الحق سبحانه وتعالى قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 6.
أما من حيث شمولية الإسلام للرسالات التي كانت قبله، يقول سيد قطب: »والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعًا وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات…” 7في ظلال القرآن، ج4..
كما أن اقتران المسجد الأقصى بالمسجد الحرام يوحي بأن رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات، يقول محمد عمارة “فكان الإسراء إسراء الله بعبده ورسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعروجه من الصخرة إلى سدرة المنتهى، الإعلان الإلهي عن ختم هذه الرحلة القدسية لخطوات الأنبياء والرسل على طريق الله وعن حمل أمة الرسالة الخاتمة أمانة الجهاد في سبيل الحفاظ على مقدسات كل الرسالات تلك التي تجسدها مدينة القدس قبل غيرها، وأكثر من غيرها من المدن والبقاع” 8.
4ـ اقترانهما من حيث أداء فريضة الحج وطلب العلم والمشاركة في الحرب بالنسبة للمغاربة:
يشهد لتعلق أجداد المغاربة بالمسجد الأقصى المبارك وجود حي المغاربة بجواره، وهو الحي الذي يشهد للحجاج المغاربة في تلك المرحلة حرصهم على الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بشد الرحال إلى المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث، من خلال زيارة المسجد الأقصى بعد رحلة الحج التي مكّنتهم من زيارة المسجد الحرام والمسجد النبوي. ولم يكن هذا الأمر خاصا بالحجاج المغاربة فقط بل قصده أيضا عدد من علمائهم لطلب العلم “كان المغاربة يقصدونه كذلك طلبا للعلم، كما أن الكثير من أعلامهم أقاموا هناك لبضع سنوات، كأمثال الشيخ المقري التلمساني صاحب كتاب “نفح الطيب” والشيخ سيدي صالح حرازم المتوفي بفاس في أواسط القرن السادس.
لم تكن فريضتي الحج وطلب العلم هما الدافعان الوحيدان لوجود سكان من المغرب في تلك البقعة، بل كان هنالك دافع ثالث لا يقل أهمية وهو المشاركة في الحرب خلال الحروب الصليبية “فقد تطوع المغاربة في جيوش نور الدين وأبلوا بلاءً حسناً، وبقوا على العهد زمن صلاح الدين الأيوبي بل ازداد عددهم سنة 583 هـ1187م إبان تحرير هذا الأخير لمدينة القدس. بعد الفتح، اعتاد المغاربة أن يجاوروا قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم أقرب مكان من المسجد الأقصى. وعِرفَاناً منه، وَقَفَ الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة على المغاربة سنة 1193 (583 ه) وهي نفس السنة التي توفي فيها صلاح الدين بعد خمس سنوات من فتحه المدينة. سُمي الحي منذ ذلك الحين باسم حارة أو حي المغاربة، وكان يضم بالإضافة إلى المنازل عديداً من المرافق، أهمها المدرسة الأفضلية التي بناها الملك الأفضل وحملت اسمه” 9.
5ـ اقترانهما في وحدة المصير وواجب التحرير: فالمساجد الثلاثة لها مصير واحد، وأي عدوان على مسجد واحد منها هو عدوان على المساجد الثلاثة. كما أن المساجد الثلاثة مستهدفة من قبل الصهاينة، فبعد حرب 1967م ودخول الصهاينة القدس الشريف، صرح زعيمهم ‘دايفيد غوريون’ بالقول: “لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب” 10.
ثم تبعته رئيسة الوزراء ‘ غولدا مائير’ بالقول: “إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها” 11.
ومن هذا المنطلق -ولتكتمل صورة الإسلام بالمساجد الثلاثة الخالدة إلى يوم الدين- فإن جميع المسلمين الذين يتوجهون في قبلتهم للصلاة إلى المسجد الحرام، ويقومون بزيارة المسجد النبوي في حجهم وعمرتهم، مطالبون بتحرير المسجد الأقصى من قبضة الصهاينة الغاصبين وصدهم عن الوصول إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي. كما أن حكام العرب الذين وقعوا اتفاقيات التطبيع مع الكيان الغاصب للمسجد الأقصى وبلاد فلسطين، فهم بفعلهم هذا باعوا المسجد الأقصى للصهاينة الغاصبين ومكنوهم من الدخول إلى أرض الحرمين، فعليهم مسؤولية عظمى أمام رب العالمين. وليعلم الجميع أن للبيت رب يحميه فهذا ورب الكعبة حق اليقين، والحمد لله رب العالمين.
[2] صحيح البخاري (رقم: 3425)، صحيح مسلم (رقم: 520).
[3] السيوطي، الجامع الصغير، رقم: 5850.
[4] أخرجه: البخاري (١١٨٩)، ومسلم (١٣٩٧)، وأحمد (٧٧٢٢) باختلاف يسير، وأبو داود (٢٠٣٣)، والنسائي (٧٠٠)، وابن ماجه (١٤٠٩) واللفظ لهم.
[5] ابن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، (بيروت، دار الكتب العلمية) ج2، ص32-33.
[6] سورة البقرة، الآية: 144.
[8] زاد الخطيب إلى تحرير الأقصى الحبيب: سلسلة بحوث ودراسات فلسطينية، مقال تحت عنوان: القدس أمانة عمر في انتظار صلاح الدين، د.محمد عمارة، ص:45.
[9] بلاد المغرب في فلسطين نسخة محفوظة 01 فبراير 2014 على موقع واي باك مشين.
[10] السيرة النبوية ـ دراسة تحليلية ـ محمد أبو فارس، دار الفرقان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2001، ص: 314.
[11] المصدر نفسه والصفحة نفسها.