بعد كل التعب والأرق الذي كنت أشعر به في ذلك اليوم جراء ضغط العمل، ركبت الحافلة في طريقي إلى البيت. بعد مدة قصيرة أتت امرأة طاعنة في السن وجلست بجانبي، وكانت تحمل في يدها سبحة ثم نظرت إلي فجأة وقالت: كم الساعة يا ابنتي؟
نظرت إليها قائلة بنبرة حزينة: “إنها السابعة والنصف مساءً يا خالة”، فردت بوجه مبتسم: “شكراً لكِ يا ابنتي”. فابتسمت لها رغم التعاسة التي كانت تبدو على ملامحي ثم تنفست بثقل وأنزلت رأسي للأسفل. وبعد ثوانٍ خرجت المرأة العجوز عن صمتها وقالت لي: “ما بك يا ابنتي تبدين حزينة؟”
فأجبتها بنبرة مختنقة وعيون دامعة: “لا شيء غير أنني منهكة من هذه الحياة”، فابتسمت وقالت لي: “فتاة مثلك في عمر الزهور تتحدث عن التعب من الحياة؟!”، قاطعتها بنبرة يائسة: “نعم فأنا أرى أحلامي تتلاشى أمامي والسنوات تمر كالبرق وأنا لم أبرح مكاني، وأفكاري متشابكة كخيوط عنكبوت ملأت عقلي. تارة أعود بذاكرتي إلى مشاهد مؤلمة تحرق فؤادي كلما تذكرتها، وتارة أخرى أتطلع إلى مستقبل غامض يبعث على القلق والحيرة، فأنا حقًا ضائعة في هذه الحياة يا خالة”.
نظرت إلي وقالت بصوت هادئ: “إنها الحياة يا ابنتي، قد تؤلمنا أحيانًا وتسعدنا أحيانًا أخرى المهم هو ألا تنسي أن هذه الدنيا دار فناء فلا تجعليها تنهك قواك”.
أجبتها بتذمر: “كل الأبواب التي أطرقها تُغلق في وجهي، لقد أصبحت أسيرة أفكاري”، فأردفت قائلة: “يا ابنتي لا تجعلي الحزن يتمكن منك فالحزن من الشيطان، فهو يفقد العبد حلاوة الشعور بالرضا والقناعة مما يجعله ينسى نعم الله عليه، فالشيطان يسعى بكل ما أوتي من قوةٍ ليفسد على العبد حياته والحزن هو أحد أسلحته التي يستخدمها لإبعاد العبد عن ربه”.
سألتها: “كيف؟ كيف سأفعل ذلك؟ فأنا حاولت كثيرًا لكنني فشلت”. فأجابتني بسؤال مباغت: “هل تصلين الفجر في وقته يا ابنتي؟” فأجبتها مطأطئة رأسي: “لا، لماذا؟”، فقالت لي: “يبدو أنني عرفت سبب علتك ودواءها”. فنظرت إليها بتعجب: “كيف؟”.
قالت لي: “يا ابنتي، الحزن كمرض ينخر قوتنا ويضعفنا، ويجعلنا غير قادرين على مواجهة تحديات الحياة. ولكن الله جعل لكل داء دواءً، فالدعاء والصلاة هما سلاح المؤمن. فعندما تكسرنا الحياة، يجب أن نلجأ إلى الله تعالى بالدعاء والصلاة، ونسأله أن يفرج عنا كربنا وهمنا. صلاة الفجر يا ابنتي ستخفف عنكِ ثقل ما تشعرين به من حزن وكآبة، فهي بلسم للجروح ورابط قوي يربط بين العبد وربه، وسترين العجائب في حياتك إذا حافظتِ عليها يا ابنتي”.
نظرت إليها وأنا أحاول استيعاب ما أسمعه، لم أكن أتخيل أن لصلاة الفجر قيمة وتأثيرا على الروح والنفس. فسألتها والحيرة تبدو على وجهي: “ولكن يا خالتي أنا لا أستطيع الاستيقاظ مبكرا فأنا أشعر بالتعب الشديد”.
ابتسمت وقالت: “كل البدايات صعبة يا ابنتي ولكن الإصرار والعزيمة سيقودانكِ إلى النجاح، ابدئي وحاولي ولا تتكاسلي، استيقظي قبل الفجر بدقائق قليلة، حتى لو لم تستطيعي استمري وألحي في دعائك. فقط اجلسي وتحدثي مع الله، أفرغي كل أحزانك له واطلبي منه العون والتوفيق وكوني على يقين أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه”.
وفجأة توقفت الحافلة فنزلت وفي طريقي إلى البيت استمر كلام العجوز يدور في عقلي مثل همسة هادئة تحاول أن تجد طريقها إلى قلبي المرهق. كان حديثها عن صلاة الفجر يتردد داخلي وشعرت بشيء غريب يتسلل إلى نفسي، مزيج من الفضول والراحة، كأنني وجدت نقطة ضوء في نفق مظلم.
حين وصلت إلى المنزل ألقيت حقيبتي وجلست على سريري أحدق في سقف غرفتي مستحضرة كم مرة عانقت فيها العتمة ملتفة بذراعي حول جسدي المرتجف. كانت أضواء الشوارع الخافتة كنجوم صامتة شاهدة على وحدتي التي تزداد عمقاً يوما بعد يوم.
بينما لا تزال كلمات العجوز تتردد في ذهني: “صلاة الفجر ستخفف عنكِ ثقل ما تشعرين به من حزن وكآبة”، فقررت أن أجرب ما قالته، على الأقل لم يعد لي ما أخسره. ضبطت المنبه في هاتفي ليوقظني قبل الفجر بقليل، لقد راودني إحساس التردد والخوف من الفشل مرة أخرى لكني تجاهلته، فأغلقت عيني في محاولة للنوم ولكن كلام العجوز والأفكار المتناثرة في عقلي كانت كفيلة بأن تسرق النوم من جفوني، وبعد مدة لا أعلم مداها غفوت وغصت في نوم عميق.
وأنا في طريقي إلى العمل، لمحت من بعيد نفس العجوز جالسة في الحديقة وهي تتأمل في الأفق وتقلب حبات السبحة بين يديها، كنت مترددة في البداية ولكن اقتربت منها، لم أعرف ماذا كان علي أن أقوله لها، نظرت إليها وقلت لها بتوتر وبابتسامة خفيفة: “شكرا… شكرا لك يا خالتي فَجُل ما قلته لي كان كفيلا بأن يعطيني بصيصا من الأمل الذي أعاد لي الحياة من جديد”.
نظرت إليّ بعينين تلمعان بالفرح وقالت: “أنت من أخذ الخطوة يا ابنتي، استمري ولا تخافي إن الله معك وستجدينه دائمًا يساعدك ما دمت تحاولين”.
همّت العجوز الحكيمة بالرحيل تعلو محياها ابتسامة جميلة، وفي اللحظة التي أردت قول شيء آخر لها وأنا حينئذ مرتبكة أنظر إلى ناحية قدميّ، رفعت رأسي أستجمع الكلمات في ذهني لأنطق بها لكن لم أجدها حولي وكأنها اختفت بدون سابق إنذار.
شعرت بالدهشة، وتسارعت دقات قلبي، ولوهلة سمعت صوتا مرتفعا مما دفعني لفتح عيني بفزع لأجد رنين المنبه لصلاة الفجر، استيقظت بصعوبة وشعرت بأن جسدي مرهق ومتشنج، وحاولت النهوض ببطء، كان الجو هادئًا، ونسيم الهواء كان باردا ومنعشًا، كأنني أشعر بالسلام يغمرني لأول مرة منذ فترة طويلة.
بدأت الصلاة فصرت أشعر بالحزن الذي كان يُثقل قلبي يتلاشى شيئا فشيئا، كأنها غيمة سوداء مثقلة بالدموع تنقشع ببطء عن قلبي.
وبعد الصلاة، جلست على السجادة وشرعت في التحدث مع الله دون توقف، وعيناي تنهمران بالدموع التي كنت أشعر بحرارتها على وجنتي. تحدثت مع الله وبدأت أشعر بأنني لست وحدي، هناك من يسمعني، من يعتني بي، ثم غفوت ونمت وأنا على السجادة.
وفي صباح اليوم التالي، استيقظت ونهضت من على سجادتي وكأنني ولدت من جديد مرة أخرى بكل نشاط وحيوية، لقد مر ذلك اليوم حافلا بالبركة، وفي تلك الليلة استيقظت للمرة الثانية لصلاة الفجر، وكان الأمر أسهل قليلاً، شعرت بقلبي يخف أكثر، وكأن ثقلاً كان على كاهلي قد بدأ بالزوال.
استمررت على هذا الحال لأيام، وكل يوم كان هناك شعور جديد بالراحة والأمل يتسلل إلى قلبي. بدأت أرى الأمل في كل شيء، لم أعد أقحم نفسي في التفكير في المستقبل وضغوط الحياة لأنني أصبحت أسلم زمام الأمور لله عز وجل، أصبحت أشعر بقوة داخلية لم أكن أعلم بوجودها، كان النور الذي أشار إليه كلام العجوز الحكيمة يزداد سطوعًا في داخلي يوما بعد يوم.