من قصص الحجاج والمعتمرين (4) | أنا لا أصلح

Cover Image for من قصص الحجاج والمعتمرين (4) | أنا لا أصلح
نشر بتاريخ

هذه مجموعة قصص سمعتها من أصحابها، وها أنا ذا أحكيها على لسانهم -مع بعض التصرف- مستعملا الضمير المتصل “تُ” عوض الضمير المنفصل “هو”.


كنت طبيبا رئيسيا في أحد المستشفيات في مدينة صغيرة تقع غرب الأطلس الكبير، طبيبا منسيا مع ما نسي من شطر الوطن، حيث الفقر والقرّ والقهر وانقطاع الطرق إن نزل الغيث بغزارة في الشتاء، والقيظ والحرّ صيفا ولسعات الهوامّ وندرة الماء.

لا أحد يحاسبني، ولا أحد يسأل عنّي، وحتى لو سألوا فإنّهم لن يجدوني، فليعش من يعش، وليمت من يمت.

ليحاسبوني -إذن- وليطردوني على إهمالي وغيابي.. لا يستطيعون، فالمكان سيبقى شاغرا، إذ لا أحد يريد أن يأتي إلى شبه مدينة صغيرة مهملة.

قضيت زهرة العمر هناك في قعر النسيان، أخطأت طريقي منذ البداية، وعوض أن أمضي ذات اليمين، سرت ذات الشمال، واتخذت من الخمر أنيسة وحبيبة ورفيقة عمر. وكنت دائما ما أنشد أبيات أبي حيّان:

يا دير هند لقد أصبحت لي أنساً

ولم تكنْ قطُ لي يا دير مئناسا

سُقْياً لظلك ظلاً كنتُ آلفُهُ

فيه أعاشرُ قِسيساً وشماسا

لا أعدمُ اللهوَ في أرجاء هيكلِه

ولا أردُ على الساقي بهِ الكاسا

أمّا أبو حيان فقد كان يأتي لدير الشاعرة هند بنت النعمان بن المنذر يكرع في صلف أجوف نخب الخسران، ويتحدّث إلى القساوسة والرهبان، وأمّا أنا فقد نُفيت إلى فلاة بلا عنوان، لا لي فيها أنيس ولا جليس، لذاك غرّر بي اللعين إبليس، وأتاني بماء العنب وقال: هذه ستساعدك على النسيان.

أصبحت السجائر والخمر رفيقتاي وأنيساي في وحشتي.. وبقيتا كذلك حتى بعدما تزوّجت بامرأة طيبة صبرت على جنوني وإدماني.

وبينما أنا في عالمي العجيب هذا ثمِلٌ لا أكاد أصحو، رنّ هاتفي يوما فإذا المندوب الإقليمي للصحّة يزفّ إليّ خبرا مفاده أنّه تمّ اختياري للذهاب مع البعثة الطبّية المتوجّهة إلى الديار المقدّسة قصد خدمة ضيوف الرحمان.

كنت يومها قد أفرطت في الشرب، فأخذت أضحك ملء في وأقول لنفسي: “لقد أفرطتَ في الشرب يا لئيم” هاهاها… “هذا هو السُّكْر وإلاّ فلا”.

ضحكتُ وضحكتُ حتى بكيت. ثم نمت نوما عميقا.

لمّا أفقت، بقيت جملةٌ تتردّد على مسامعي: “السيد عامل الإقليم يطلب منك أن تذهب ضمن البعثة الطبية الخاصة بحجاج بيت الله الحرام”، فظننت أنّي فقط كنت أحلم.

شربت كأس قهوة سوداء بلا سُكَّر، فلمّا شعرت بأني في كامل قواي العقليّة، فتحت هاتفي لأرى هل فعلا كان هناك اتصال من المندوب أم لا، فوجدت الاتصال حقيقيا، فذهلت.

ركبتُ سيارتي وتوجّهت إلى المندوبية لأشرح للسيد المندوب حالتي وما أنا عليه، وقلت: “أنا لا أصلح لما انتدبتموني إليه”. قال لي: “لقد أخبرت السيد عامل الإقليم بإدمانك، وقلت له الرجل غير صالح بتاتا، لكنّه أجابني بحزم قائلا: “يا هذا مُره أن يستعد، فهو سيذهب بصفته طبيبا، لا مرشدا دينيا”.

ثم أضاف المندوب: “يا فلان؛ ما من الأمر بد… فأنت الطبيب الرئيس الوحيد المتواجد في هذه المنطقة وعليك أن تؤدي واجبك مع الساكنة المتوجهة إلى الديار المقدّسة. الطائرة ستقلع بعد ثمان وأربعين ساعة، حضّر نفسك”.

لمّا أصرّ قلت له والغضب يتملّك كلّ ذرّات جسدي، وعيناي تكادان تنفثان النار: “أنا لا أصلح، أنا سكّير عربيد لا أكاد أصحو من الثمالة، وأنت تقول لي اذهب مع الحجّاج إلى بيت الله الحرام، عين الحرام هو أن ترسلوا مثلي إلى ذلك المقام”.

احمرّ وجه المسؤول ولم ينبس ببنت شفة.

انصرفت غضبان أسفا، فلحق بي أحد الزملاء الذين كنت أحترمهم فمازال بي حتى أقنعني بفكرة الذهاب.

بعد نهاية العمل، ذهبت إلى الحانة وشربتُ شربا لم أشرب مثله من قبل، ثمّ عدت إلى البيت في وقت متأخر من الليل وأنا أكاد أنفجر من الغيظ مردّدا جملة: “من شرب الحرام إلى البيت الحرام” وأضحك… أضحك… ثم أبكي كالمجنون.

دخلت البيت وأنا على تلك الحال، فاستقبلتني زوجتي كعادتها: “أما شبعت من هذا السمّ الذي يخرّب صحّتك وحياتك؟ أما آن لك أن تبتعد عن هذه المصيبة؟”.

قلت لها: “قولي هذا الكلام للسيد العامل الذي يريد أن يرسلني إلى الحج”.

فلمّا سمعت زوجتي ذلك زغردت في جوف الليل زغردة أظن أنّ أهل الحيّ كلّهم قد سمعوها.

قالت: “هذا خبر جيّد، عليك أن تفرح لا أن تبكي. عليك أن تتوب لا أن تفرط في السكر”.

في الصباح قمت -على غير العادة- باكرا، وذهبت لأقوم ببعض الإجراءات الإدارية المطلوبة منّي قصد الذهاب لأداء مهمتي كما أمر السيد عامل الإقليم.

وقررت ألا أشرب هذا اليوم، وكذلك اليوم الذي يليه، لكنّي بتّ ليلي ساهرا أتململ، أفكّر كيف سآخذ معي السجائر، وكم علبة سأصطحب معي. أما الخمر أم المصائب فإنّي كنت أعلم أنّه لا يمكنني أخذها معي وقلت سأتدبّر أمرها هناك.

ما زال إبليس اللّعين يلفّني في خيوطه كما تفعل العنكبوت بفريستها.

ومضت الثمان وأربعون ساعة، ووجدت نفسي في الطائرة مع رجال ونساء قد استدعاهم المولى لبيته، واختارهم لمأدبته، واصطفاهم لضيافته… قد أشرقت بالفرحة أساريرهم، وازدهت -احتفاء باللقاء- أثوابهم، وخرست -تأدّبا مع الله عز وجلّ- أفواههم. فتراهم هادئين هائمين في لحظة الشهود تلك وقد صدقهم الله تعالى وعده وأنالهم ما تمنّوا لسنوات عديدة.

كنت أحتقر نفسي أمامهم… كنت أقول أنا الشيطان وسط هؤلاء الملائكة.

ثمّ اهتزّ قلبي هلعا حينما بلغنا ميقات “رابغ”؛ فإذا الرجال يخلعون جلابيبهم وقمصانهم، وإذا البياض يكسو المكان كلّه وكأنّما جاءت عاصفة ثلجية فغطّت الأرض وما عليها، فلم يعد يُرى لون مغاير إلا لون وجهي وثيابي وثياب بعض من كان معي من الطاقم الطّبي.

ثمّ قرع قلبي مرّة أخرى صوتُ هؤلاء الحجّاج وهم يجأرون بالتلبية: “لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرٍيك لَك لَبَّيْكَ. إنَّ الحَمْدَ والنِعْمَةَ لَكَ والمُلْك. لا شَرِيِكَ لك”.

أحسست بأنّي عدم… شعرتُ بالندم… أحسست بالوحدة، بالضياع، باليتم… وأدركت بأنّي وغد حقير، وانتبهت إلى أنّي مسكين فقير.

آه آه ! من ذا يؤنس وحشتي؟ من ذا يغفر زلّتي؟ من ذا يتصدّق عليّ ويعطيني؟ من ذا يُشفقُ عليّ ويأويني؟

بكيت بكاء لم أبك مثله قبله ولا بعده !

أكلّ هؤلاء يدركون أنّهم في حاجة إلى ربّهم إلا أنا؟

أكلّهم في صلح مع بارئهم إلا أنا؟

أكلّهم فرحون بالذهاب إلى بيت ربّهم إلا أنا؟

واسوأتاه ! واسوأتاه !

وأقسمت حينها أن يكون هذا اليوم هو آخر يوم لي مع التدخين والخمر والمعصية، وعزمت على التوبة النصوح، وسألت ربّي أن يقبل عبده الآبق.

ودخلت مكّة المكرّمة بغير إحرام ولا نية، واستأذنت زملائي في الذهاب إلى البعثة الدينية لأستفتي أحد علمائها في أمري فأذنوا لي. فوجدت عالما طيبا استأنست به، وأفرغت عنده مكنونات صدري، وأخبرته بما جنت يداي وأين أفنيت عمري، فأخذ بيدي، وشجّعني، وحطّم حواجز الشيطان من أمامي، وردّد على مسامع قلبي: قُلْ يَٰعِبَادِيَ اَ۬لذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَيٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اِ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يَغْفِرُ اُ۬لذُّنُوبَ جَمِيعاًۖ اِنَّهُۥ هُوَ اَ۬لْغَفُورُ اُ۬لرَّحِيمُۖ [الزمر: 50].

وبصوته العذب الرخيم أسمع فؤادي كلام ربّي: وَهُوَ اَ۬لذِے يَقْبَلُ اُ۬لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِۦ وَيَعْفُواْ عَنِ اِ۬لسَّيِّـَٔاتِ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَۖ [الشورى: 25].

فبكيت حتى ابتلّ نحري وقلت للشيخ: من أين أبدأ؟ وهل يمكنني الحجّ رغم أنّي لم أحرم من الميقات، ولم تكن عندي نيّة الحج؟

فيسّر عليّ ولم يعسّر، وبشّرني ولم ينفّر، وساندني ولم يدبر. فجزاه الله خيرا من عالم ناصح.

وتبت بفضل الله تعالى وحججت بيت ربّي، وشعرت بأنّني تخفّفت من وزري. وعدت إلى زوجتي وأولادي وقد صفا وجهي، وابيضّ لوني، وطالت لحيتي، وصحّت توبتي، ففرحوا بي ولم يصدّقوا أنّني أبوهم الذي ذهب يحمل معه كميّة كبيرة من السجائر، ويفكّر كيف سيعثر على الخمر في مكّة المكرّمة. أخبرتهم -في جلسة حميمية- بما حدث، وكيف حدث، وطمأنتهم أنّ أباهم الأول قد مات ودفن، وهذا الذي معهم هو الذي سيحلّ محلّه. وفي صبيحة اليوم الموالي لرجوعي من رحلتي المنيبة طلبت من أحد الفلاحين الذين كانت تربطني بهم علاقة طيبة أن يحضر لي كبشين أملحين أقرنين فذبحتهما عقيقة عن ولادتي، أليس يقول مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ» 1.

وها أنذا -بعد مضي عشرين عاما على هذه القصة- أحكيها لكم كما لو حدثت البارحة… أحكيها وأنا على وعدي وعهدي الذي قطعت لربّي، راجيا أن يتمّ عليّ نعمته، ويجعلني من عباده الصالحين، ويحييني على طاعته ومحبّته والشوق إليه حتى يأتيني اليقين.

وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله صحبه أجمعين.


[1] أخرجه البخاري (1521) واللفظ له، ومسلم (1350) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.