1- منبِتٌ ونضال
في قلب جبال الأطلس المتوسط، وبالضبط في قرية “الصابرة” بمنطقة “مريرت”، رأى الدكتور محمد باعسو أعراب النورَ أوّل مرة سنة ألفٍ وتِسْعِمائَةٍ وخمسةٍ وسِتِّين (1965)، هناك درجت طفولتُه، وتلقى تعليمه الابتدائي، قبل أن ينتقل لاستكمال دراسته بثانوية طارق بن زياد بآزرو. كان الفتى يجرُّ خلفه وضعا اجتماعيا صعبا عنوانه الفقرُ والعَوَز، وهو الأمر الذي فرض عليه مغادرة مقاعد الدراسة قبل الحصول على شهادة الباكالوريا، ومن ثمَّة البحث عن عمل لإنقاذ أسرته. هكذا تحمّل المسؤولية منذ شبابه الأول، حيث التحق مستخدما بإدارة الشركة المنجمية لجبل عوّام ولم يبلغ بعدُ العشرين من عمره.
منذ البداية كانت أخلاقُه والتزامُه عنوانَيْهِ البارزين، قبل أن تتعزّز الشخصية الإسلامية الأمازيغية الأصيلة، بخصلة الانتصار لحقوق المستضعفين والدفاع عن قضاياهم، هكذا برز مقامه بين سائر العمّال، حيث حظي باحترام وتقدير كبير، خاصة عندما انخرط في كفاحات الشغّيلة، متميّزا في مختلف محطاتها النضالية. ولم يلبث الشاب الخلوق أن صار أحد أبرز قادة الحراك العمالي، خاصة إبان أزمة بداية التسعينيات عندما توقفت الشركة المذكورة عن العمل وتم دفعها إلى التصفية القضائية، وهو ما عرَّض آلاف الأسر لأنياب الفقر والتشرّد والضياع. وحينها كان على رأس من انتفضوا ضد هذه القرارات، حيث نُظِّمَت تظاهرات كبيرة، ومسيرات جرّيئة، واعتصامات قويّة، سواء بقرية “تيغزّى” أو بمدينة “مريرت”، غطّت شهورا عديدة. كما نزل مئات العمال إلى الرباط حيث نظموا مسيرات غاضبة وتظاهرات حاشدة احتضنها مقر نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وهي المظاهرات التي عرّفت بمظلومية عُمّال “جبل عوّام” ومطالبهم المشروعة. وقد حظيت هذه المعارك النضالية بدعم القوى العمالية والنقابية والحقوقية على كافة المستويات الوطنية والدولية.
الكل يذكر أن باعسو كان من أبرز مؤطّري المرحلة النضالية الصعبة، والكل يذكر أنه كان من قادة الاعتصام العمّالي البطولي داخل أغوار مناجم “جبل عوّام” الذي استمر وقتا طويلا وحرّك معه الرأي العام الوطني والدّولي تضامنا مع العمال ومساندة لهم في محنتهم.
2- شغف بالعلم والمعرفة
انتهت المعركة النضالية العمالية، لكن معركة باعسو مع سياسة التسلّط والتفقير لم تنته، كان قد قرر النضال عبر كل ما أتيح أمامه من واجهات، هكذا عاد إلى استكمال مساره الدراسي، بحصوله على الباكالوريا، ثم الإجازة، وهو ما أهّله ليجتاز مباراة أطر مصالح وزارة التربية بداية منتصف التسعينيات، حيث عُيِّن موظفا بالنيابة الإقليمية لوزارة التربية الوطنية بخنيفرة. لكن طموحه الدراسي والمهني لم يتوقّف، إذ اجتاز بنجاح مباراة ولوج السلك العالي للمدرسة الوطنية للإدارة العمومية بالرباط حيث تلقّى تكوينا أكاديميا لمدة سنتين حصل بعدهما على ديبلوم السلك العالي، وتم تعيينه متصرفا بنيابة التعليم بالحاجب، حيث أمضى سنوات عديدة قبل أن يلتحق بمقر الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة مكناس تافيلالت، لتُسند له عدة مهامّ إدارية تُوجت بإشرافه على قسم التكوينات بالأكاديمية.
لكنّ طموح الرجل وشغفه بالمعرفة لم يتوقّف، فأبى إلا أن يسعى إلى استكمال مساره العلمي والأكاديمي، إلى أن حاز شهادة الدكتوراه بكلية علوم التربية بالرباط، صيف السنة الجارية (2022).
3- استقامة وإشعاع
وبالموازاة مع المسار الاجتماعي والمعرفي، انضمّ باعسو إلى جماعة العدل والإحسان سنة 1984، وكان نِعم المؤمن المشمّر عن ساعد الجد والاجتهاد، ترقّى في مراتب خدمة الدعوة وقيادتها، حتى صار مضرب المثل في الصدق والدعوة ومضاء العزيمة، ولذلك كان دوما عرضة للتحرّش المخزني برفقة إخوته بمكناس. فالرجل لم يكن يفتر عن الحركة، أو يتوقف عن الدعوة، عُرف واعظا مؤثرا، وخطيبا مفوّها، بالعربية والأمازيغية، بمجموعة من المساجد بكل من خنيفرة ومكناس، كما عُرِفَت عنه سماحته ووسطيّته واعتداله، لكن كل ذلك لم يمنع من التضييق عليه باستمرار، إلى أن تمّ إيقافه عن مهمة الوعظ والخطابة بشكل نهائي.
اشتهر باعسو بمعاملاته النزيهة وإسهامه في أعمال الخير، وعُرفَ بسعيه إلى الإصلاح بين الناس، كما يُشهد له بدماثة أخلاقه بين زملائه في العمل، في مختلف الإدارات التي اشتغل فيها، وفي كل الأحياء التي كان يلقي فيها دروس الوعظ والإرشاد، في المدن التي عرفت مواعظه، كما في القرى الصغيرة التي زارها داعيا مؤلِّفا دالّا على الخير. ولذلك لا يُستغربُ مع هذا كلِّهِ أن يحوز الرجل صدى طيبا واسعا، ويحظى باحترام الصغير والكبير.
4- مسؤولية وعفّة
كل هذه الحركة، وتلك الجهود؛ المهنية والمعرفية والدعوية والخيرية، كان الدكتور باعسو يؤديها في انسجام تام، وتوازن موفّق مع واجباته الأسرية والعائلية، فالرجل، كباقي شباب منطقته قبل عقود، تزوج مبكرا، بالسيدة الفاضلة عائشة جوزي، وعاشا ما يربو عن خمس وثلاثين سنة في تآلف ومحبة وثقة ويقين، فكانت له السند والعون والظهر الحامي، وكان لها نعم الزوج المسؤول الساهر على بيته وأبنائه، حيث رزقهما المولى الكريم بخمسة أبناء، سهرا على تربيتهم وتعليمهم، ووفرا لهم كنف المحبة ومحضن الإيمان وبيت التقوى والعفة والأصالة والأخلاق الكريمة، وهم، حفظهم الله وباركهم، ثمار طيّبة لذلك الصدق، وذلكم النبل، وتلكم الطهارة:
– أسماء باعسو، موظفة، عمرها 34 سنة.
– خولة باعسو، أستاذة بالسلك الثانوي، عمرها 32 سنة.
– عمران باعسو، مستخدم وطالب ماستر، عمره 30.
– نسيبة باعسو، حاصلة على الماجستير في إدارة الأعمال، عمرها 27 سنة.
– حمزة باعسو، طالب بسلك الماستر، عمره 24 سنة.
حفظ الله الدكتور باعسو من كيد الكائدين، وردّ عنه إفك الأفّاكين وادّعاء الحاقِدين، وأرجعه إلى داره وأهله سالما غانما، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.