تقديم
منابع الرحمة تتجلى في الرسول صلى الله عليه وسلم وفي رسالته السمحة، فلا تكاد تجد خلقا ولا سلوكا ولا قولا منه عليه الصلاة والسلام إلا وعليه مسحة من الرحمة والرأفة ولمسة من العطف والحنان، تعدت محيطه الأسري إلى عامة الناس بل والخلق كافة، إنسهم وجنهم، برهم وفاجرهم وحيَّهم وميِّتهم، وحرهم وعبدهم، وحتى الحيوان والجماد لهم نصيب وافر من هذه الرحمة.
وليس ذلك لشيء سوى لأن هذا خلق متجذر في القلب، ومبدأ راسخ في الدين، ونهج متبع في الدين ورسالة خالدة عامة للناس، يؤطرها الوحي ويزكيها الفعل، قال تعالى: وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً للعَالَمِينَ 1 .
والمؤمن هو من جمع قلبه معاني الإيمان فسرت لجوارحه وتمثلت في أفعاله وأقواله سراَ وعلانية. إذ لا يكفي أن نغرد ببعض الشعارات التي لها رنة، وعند الفعل ترى ما يشين ويعيب والأمل فيه يخيب. إذا رأيت هذا فاعلم أنك تغرف من غير المنبع الاصلي، إذ الأصل رحمة ورأفة. بِالمُومِنينَ رؤُوفٌ رَّحِيمٌ 2 .
وإنك إذ تجول بقلبك وفكرك في أسماء الله الحسنى لا تكاد تخرج من اسم إلا وتجده مملوءاً بالرحمة، حتى تلك التي تميزت بالقوة والكبرياء والجبروت فهي رحمة للضعفاء والمساكين والمقهورين والمظلومين من العباد.
فالمؤمن إن لم يستق خلقه وإيمانه من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فممن عساه سيأخذ دينه ويقوم أخلاقه، ليكون فكره وسلوكه مطابقاً للدين وعلى وفق المنهاج النبوي؟
فالله تعالى هو الرحمن الرحيم، والرسول صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، والإسلام رسالة الرحمة، فماذا عسى يقول صاحب الكفر والتكفير، والقتل والترهيب، والتطاول باسم الدين. إنَّ الذِينَ يفْتَرونَ على اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُون 3 .
وهنا أوقف القارئ هنيهة كي يقرأ معي نص هذا الحديث الشريف عن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأفته، بل ونبله وشيم كرمه وتمام عدله ومدى جميل عرفانه بالآخر حتى لو كان حيواناً أعجماً.
الحديث
روى ابن ماجه عن تميم الداري قال: “كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيها البعير اشك، فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك مع أن الله تعالى قد أمن عائذنا وليس بخائب لائذنا”، فقلنا: “يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟” قال: “هذا بعير هَمَّ أهله بنحره وأكل لحمه فهرب منهم واستغاث بنبيكم صلى الله عليه وسلم”، فبينما نحن كذلك إذ أقبل صاحبه أو قال أصحابه يتعادون، فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما إنه يشكو إلي فبئست الشكاية!”، قالوا: يا رسول الله: ما يقول؟ قال: “يقول إنه ربي في أمنكم أحوالا وكنتم تركبون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، وترحلون عليه في الشتاء إلى موضع الدفإ، فلما كبر استعجلتم فرزقكم الله منه إبلا سائقة، فلما أدركته هذه السنة الخصيبة هممتم بذبحه وأكل لحمه”. فقالوا: والله يا رسول الله كان ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه”، فقالوا: يا رسول الله لا نبيعه ولا ننحره، فقال: “كذبتم قد استغاث بكم فلم تغيثوه، أنا أولى برحمته منكم، فإن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين وأسكنها في قلوب المؤمنين”، فاشتراه عليه الصلاة والسلام منهم بمائة درهم، وقال: “أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه الله تعالى”. فرغا على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: “آمين”، ثم رغا فقال: “آمين”، ثم رغا فقال: “آمين”، ثم رغا الرابعة فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله! ما يقول هذا البعير يا رسول الله؟ فقال: “يقول جزاك الله أيها النبي خيرا عن الإسلام والقرآن، فقلت: آمين، ثم قال: سكن الله رعب أمتك يوم القيامة كما سكنت رعبي، فقلت: آمين، ثم قال: حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي، فقلت: آمين، ثم قال: لا جعل الله بأس أمتك بينها فبكيت، فإن هذه الخصال سألت ربي فأعطانيها ومنعني هذه، وأخبرني جبريل عليه السلام عن الله أن فناء أمتي بالسيف جرى القلم بما هو كائن””.
تأملات واستخراجات
وإنك إذ تقف على أعتاب النبوة لتقف على المنبع الحي الذي يروي ظمأ كل عطشان، ويغذي نهم كل جوعان، ويلبي رغبات كل ولهان… هذا الوقوف مع الوحي المتمثل في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بفعله وسلوكه وقوله ونهجه يخط لك خطوط المنهاج النبوي لكي تسير عليه، فلا هدي إلا هديه مهما أكثرت من حركات العبادة أو ترنمات التلاوة أو انعزال الزهادة والرهبنة، “فمن رغب عن سنتي فليس مني”، وذلك كخبر الذين جاؤوا يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أي فكر أو طريق تخالف المقاصد الكبرى والمثل العليا التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم لهي طريق مسدودة بابها، ضبابية أهدافها، سيئة نتائجها، عديمة منافعها.
1 – إن أول ما خطر ببالي وأنا أستمع إلى هذا الحديث النبوي الشريف أن الرحمة بقدر ما هي خلق رفيع من أسمى أخلاق الإسلام ومبادئه العليا، هي تمر من قلب رحيم إلى قلوب المومنين لتحدث فيها رقة وانعطافا ورحمة.
القلب الرحيم يعطي الرحمة، وهو مصدر الرحمة، لذا كان الحرص كل الحرص أن يأخذ المومنون والمومنات تربيتهم الإيمانية تحت مظلة الصحبة، ألا ترى كيف وصف الله تعالى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صاحبوه واستدفأوا بصحبته وكانوا معه يتعلمون الدين وينقلون الرسالة السمحة. قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ، وَالّذينَ معَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم 4 .
إنه لفرق كبير بين أن تقرأ الحديث من ورقة قد ملئت سنداَ وتخريجاً وحاشية وطرراً وبين تسمعه من قلب رحيم تجري كلماته بصوت رحيم تنساب حروفه من بين ثنايا الابتسامة والنظرة الحانية.
2 – إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قطب الرحمة وملاذ المستضعفين، ولم يحز هذا بكلام وخطب وتبني شعارات تذر أمولا وترقي في المناصب. بل حاز هذا بما كان يمارسه من خلق الرحمة قولا وفعلا؛ أنظر إليه وهو يدافع ويترافع عن الجمل ضد أصحابه، ولما وصل معهم إلى الباب المسدود فدى الجمل بماله وتركه حراً يمضي وله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان. وانظر إلى ذاك الجمل الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على هامته مستجيراً به لما علم من رحمته وإشفاقه وعدله.
3 – الإيمان منبع الرحمة والإحسان، بينما الكفر والنفاق منبع الشر والتخبط، وإن تسربل بأجمل الحلل، وتزين بأنفس الحلي، فلا يخدع العاقل بمن يقتل الآلاف هناك ويختلس ثروات شعوب ويطعم في الضفة الأخرى ثلة من الجائعين قمحا وشعيراً لا تتعدى تكلفتها عشر معشار ما نهبه وسلبه.
إن القلب الذي لا يحفظ للآخرين حقوقهم وصنائعهم ويكرمهم من أجلها لهو قلب عديم الشفقة والرحمة، ومن عدم هذين عدم الإيمان.
نجد هذا في هذه القصة حيث جاء أصحاب البعير يطلبونه، وألحُّوا في الطلب، ومع دفاع الرسول لم يتساهلوا حتى أخذوا الثمن، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القسوة بادية على محيهم وخاطبهم بقوله: “كذبتم قد استغاث بكم فلم تغيثوه، أنا أولى برحمته منكم، فإن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين وأسكنها في قلوب المؤمنين”، فاشتراه عليه الصلاة والسلام منهم بمائة درهم.
بينما نجد في قصة أخرى مشابهة، كيف وهب الصحابي الجليل الجمل لما وقف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد أيضا في حديث طويل عن يحيى بن مرة قال فيه “وكنت معه (يعني مع النبي) صلى الله عليه وسلم جالسا ذات يوم إذ جاء جمل يخب حتى ضرب بجرانه بين يديه ثم ذرفت عيناه فقال: ويحك انظر لمن هذا الجمل إن له لشأنا. قال: فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إليه فقال ما شأن جملك هذا؟ فقال وما شأنه لا أدري والله ما شأنه عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية فاأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه.”“قال: فلا تفعل هبه لي أو بعنيه. قال: بل هو لك يا رسول الله.”“قال: فوسمه بميسم الصدقة ثم بعث به. وإسناده جيد.”“وفي رواية له نحوه إلا أنه قال فيه إنه قال لصاحب البعير: ما لبعيرك يشكوك زعم أنك سنأته حتى كبر تريد أن تنحره؟ قال: صدقت والذي بعثك بالحق لا أفعل.”“وفي أخرى له أيضا قال يعلى بن مرة: بينا نحن نسير معه يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ مررنا ببعير يسنى عليه فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه فوقف عليه النبي صلى الله عليه و سلم فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فجاء فقال: بعنيه.”“قال: لا بل أهبه لك وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره. فقال: أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه الحديث”.
4 – وَتَوَاصَوا بِالصَبْرِ وتَوَاصَوا بالمَرْحَمةِ، أولَئِكَ أصْحَبُ المَيْمَنَةِ 5 .
يأخذنا هذا الحديث إلى كيفية تواصل وتعايش رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مجتمعه، فكانت الرحمة واللين وخفض الجانب سمته التي يلمسها منه الإنس والجن والصديق والعدو والحيوان والجماد، بل بلغ من رحمته أن المنافقين كانوا يعيرونه بمدى حلمه ورحمته وتغاضيه عن إساءاتهم وافتراءاتهم، قال تعالى فاضحا لهم: وَمِنْهم الذِينَ يُوذونَ النبِيء ويَقُولُون هُوَ أذْنٌ، قُل اذْنُ خَيْرٍ لَّكُم… 6 .
وإنك إذ تقوم بعملية بسيطة من الاستقراء لأحداث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تثبت كيف كان يتواصل مع أضعف الخلق من الحيوانات وكيف كان ينصفهم وينصح الإنسان بحسن التعامل والتواصل والتعايش مع هذه المخلوقات لترى العجب وترى مدى النبل والرحمة وشمولية هذه الرسالة وعظم مقاصدها لتتجلى لك أنها رحمة للعالمين حقا.
وأفضل التواصل وأنجحه هو الذي يبنى على الرحمة والرأفة، وإن العنف والتعسف والأحكام المسبقة والجاهزة لا تأتي بخير، بل دائما تزيد من العنت وتولد عنفاً آخر مضاداً وإصراراً مضاعفاً ولو على الباطل، بينما الرحمة تكون عوائدها خيرا وبركة، خذ مثلا قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، كيف تعامل معه نبي الرحمة، وكيف تعامل معه الصحابة الكرام، وكيف كانت ردة فعله ورجوعه إلى الحق والصواب لما رأى بأم عينه رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى هذا الجمل الذي رأى إحسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف دعا مع رسول الله وأمته والبشرية جمعاء.
5- نأتي إلى الدرس الكبير من هذا الحديث لنقف مع المصحوب الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، لنتعلم منه كيف يكون الداعية ومن يحمل هم لأمته ودعوته ورسالته.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفا بأحوال الناس ومطلعا على واقع مجتمعه والمحيطين به، ومدركاً بأولويات الدعوة والدين، يعرف الصغير والكبير والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، بل تعدى تواصله ومعرفته حتى إلى الحيوان فعرف في وجهه ما به وسكن خوفه وأمن روعه، ومن خلال نقاشه مع أصحاب البعير لم يخف عليه نفاقهم وقساوة قلوبهم فبادرهم بما يستحقون وكشف عن مكنونات نفوسهم لعلهم يتعظون وليتعلم الصحابة الكرام من هذا الحال ما يقوّمون به سلوكهم ظاهراً وباطناً.
الرحمة ليست دروشة وانبطاحاً، بل هي تسامح وحلم مع القدرة والقوة والإدراك، ليس من باب الرحمة أن تسكت عن حقك، بل الرحمة أن تتعامل بالرحمة بدل القسوة وتعطي الحق بدل الظلم وتعين الضعفاء وتشفق عليهم بدل أن تسلبهم حقهم وتسيء إليهم.
قدم الجمل وشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدد له خدماته وما كان يفعله وينتجه من العمل والعطاء، وأنكر صنيع مالكيه به إذ لم يوفوه حقه عند العجز وقلة الحيلة.
لم يستكن الجمل ولم يطأطئ رأسه ويرضخ لتعامل أصحابه معه بل فر ليلجأ لمن ينصفه.
وإننا إذ نتبنى مبدأ ألا عنف، لا نتبناه تكتيكا أو سياسة أو مرحلة عابرة، بل هو مبدأ راسخ في نفوسنا وتربية محكمة في برامجنا ونهج متبع لنبينا.
ونكسو فكرنا ومنهاجنا ودعوتنا وسلوكنا بالرحمة والرأفة والصبر والحلم والتؤدة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.