عبد الرحمن بن أحمد
تشير مختلف الدراسات التربوية حديثا وقديما إلى أهمية التعليم في بناء الإنسان والأوطان على حد سواء، وأن أي خلل في هذا المجال يؤثر بشكل مباشر في مختلف المشاريع التي يروم من خلالها المجتمع تحقيق تطلعاته السياسية والاجتماعية والثقافية والتنموية والاقتصادية وغيرها، ذلك أن التعليم هو الميدان الذي تنعكس فيه سياسة الدولة ومخططاتها، وعليه فإن تشخيص وفهم أزمة المنظومة التربوية والتعليمية يتطلب النظر في السياسة التعليمية التي يقرها النظام السياسي، كما أن الوضعية الاعتبارية لأي مجتمع بين باقي المجتمعات إنما تقاس بمجموعة من المؤشرات أبرزها مؤشر التعليم.
إذا وبالنظر لكل ماسبق، يمكننا القول أن الأزمة التعلمية في المغرب لا يمكن فهمها إلا أنها أزمة منطلق، وسياق يختزل أزمة مجتمع ونظام، لا يمكن الخروج منها إلا بتجاوز أسبابها الحقيقية، وإلا فكل إصلاح تربوي ينظر إلى مجال التعليم على أنه جزيرة معزولة عن باقي المجالات هو إصلاح يعالج أعراض المرض لا جذر المرض، مما يزيد من استفحاله، خاصة ونحن نتحدث عن بناء الإنسان، وبناء المجتمع والوطن..
أزمة منظومة التعليم أزمة منطلق
لا شك أن التحديات التي واجهت المغرب بعد الاستقلال، كانت تحديات كبيرة جدا تتعلق بتصفية الإرث الاستعماري وبناء وهيكلة الدولة والمجتمع، وتحقيق السيادة واستكمال الوحدة التربية كقضية وطنية أولى، كل ذلك عبر وضع استراتيجيات الأوراش الكبرى التي تحدد هوية المشروع المجتمعي لدولة ما بعد الاستقلال، ولعل أبرزها بناء منظومة تعليمية وطنية كقضية ثانية، إلا أن السمة البارزة التي طبعت هذه المرحلة تميزت بشدة الاحتقان السياسي حول المشروع المجتمعي وشكل النظام وطبيعة الدستور، كل ذلك كان له بالغ الأثر على مسار الوحدة الترابية سياسيا، وعلى مسار قضية التعليم تربويا واجتماعيا، يظهر ذلك من كثرة الإصلاحات المتعاقبة في أزمنة قياسية في إطار حرب المواقع والمصالح والصراع على السلطة، وفي هذا يقول الدكتور عبد الله ساعف: “الهاجس الذي كان يحرك الأطراف المتصارعة بما فيهم الدولة هو السيطرة على المجتمع، والتحكم في الأدوات القمعية والإديولوجية، وطرح بدائل مجتمعية متناقضة”.
إن أزمة المنطلق في الحقل السياسي وتداعيات ذلك على الحقل التربوي سيكون لها حضور قوي في كل السياقات التي عرفها قطاع التعليم، مما زاد من تعميق مشاكله وحال وسيحول دون إصلاح حقيقي يمكن أن يجعل من قطاع التربية والتعليم رافعة لتحقيق الانتقال الديمقراطي والإقلاع التنموي والانتعاش الاقتصادي، وما إلى هنالك من الأوراش التي فتحت ولم تكتمل. لكن ما هي هذه السياقات؟
إننا ومن خلال مقالتنا هذه نروم استجلاء تلك السياقات التي لم يزدد فيها وبها القطاع التربوي إلا تأزما رغم الكم الهائل من الإصلاحات المتعاقبة، منبهين في الوقت نفسه إلى أثرها على تحقيق الغايات التي يرومها كل إصلاح، وهي ثلاثة:
– سياق الصراع على السلطة 1956/1980
– سياق الأزمة الاقتصادية 1980/2000
– سياق العهد الجديد 2000/2023
1- سياق الصراع على السلطة
وجد المغرب نفسه إبان الاستقلال أمام تحديات كبيرة، تمثلت في:
– كيفية التعامل مع الإرث الاستعماري وبناء الدولة الوطنية سواء على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي.
– طبيعة الدولة وماهية المجتمع ومسألة الديمقراطية والدستور.
– المشاريع الإصلاحية ذات الأولوية التي ينبغي أن تميز الدولة الوطنية بعد الاستقلال.
في هذا الإطار شكل قطاع التعليم قضية وطنية ثانية بعد قضية الوحدة التربية، إلا أن التباينات السياسية، والصراع على السلطة وما خلفته من أحداث دموية في بعض الأحيان، أثرت سلبا على تلك المشاريع؛ ومنها ورش التعليم الذي ظل يراوح مكانه إلى حدود كتابة هذا المقال، وحري بنا في هذا المقام أن نسرد أهم تلك الأحداث قبل الحديث عن تأثيراتها على الحقل التعليمي بالمغرب:
– تعين أول حكومة برئاسة أمبارك البكاي حملت على عاتقها التفاوض مع فرنسا وإسبانيا لاستكمال الاستقلال.
– إصدار الملك محمد الخامس قانون الحريات العامة 1958 وإنشاء المجلس الاستشاري وكذا المجلس الدستوري الذي أعد مشروع دستور 1960.
– إنشاء مؤسسة الجيش وتفكيك جيش التحرير.
– القضاء على التمرد في المغرب الشرقي الذي قاده عدي وبيهي 1957، وكذا الانتفاضة في الريف 1958 التي تعرضت للقصف الجوي مما خلف العديد من الضحايا بقي عدده غير محدد إلى الآن.
– تأسيس الجمعية الوطنية الاستشارية ضمت أعضاء الحركة الوطنية وحزب الاستقلال حيث اشتغلت على وضع القواعد الدستورية والقانونية التي لا تتعارض والملكية التقليدية.
– انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال.
– تعيين حكومة عبد الله إبراهيم 1958 وإقالتها بعد أقل من عامين من تشكيلها، الشيء الذي اعتبره المحللون تقزيما لدور الحركة الوطنية في الحياة السياسية.
– اعتلاء الحسن الثاني العرش وسعيه لتعزيز مكانة المؤسسة الملكية في الحقل السياسي وتكييف الآليات الديمقراطية مع جوهر الملكية التقليدية.
– إقرار دستور 1962 الذي باركه حزب الاستقلال وعارض مضمونه وأسلوب وضعه الحزب الوطني للقوات الشعبية واعتبره دستورا ممنوحا.
– تنظيم أول انتخابات تشريعية بعد الاستقلال سنة 1963.
– مظاهرات الدار البيضاء وقمع احتجاجات التلاميذ 23 مارس سنة 1965 جسدت مواجهة حقيقية بين الشارع المغربي ونظام الحكم، تم التعامل معها بقمع شديد ذهب ضحيتها عدد كبير من المتظاهرين “حسب تصريحات عميل المخابرات السابق أحمد البخاري أكثر من 1500 من المحتجين دفنوا بالقرب من مطار محمد الخامس”.
– تقديم ملتمس الرقابة سنة 1965 من طرف حزب الاستقلال والحزب الوطني للقوات الشعبية، تم الرد عنه بإعلان حالة الاستثناء وحل البرلمان من طرف الملك طبقا للفصل 35 من الدستور.
– اغتيال المهدي بن بركة 1965.
– مظاهرات الفلاحين والعمال، ووجهت بالقمع واستخدام الرصاص الحي 1970.
– إقرار دستور 1970 ودستور 1972 الذي جاء لإدماج الحركة الوطنية من جديد والخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها حالة الاستثناء.
– المحاولات الانقلابية الفاشلة سنوات 1971 / 1972 / 1973.
– انتخابات 1977 التي عرفت مشاركة القوى الوطنية لحلحلة الوضع السياسي المتأزم دون المساس بجوهر الحكم؛ الذي تعززت فيه سلطة المؤسسة الملكية باحتوائها للحركة الوطنية ومعظم الأحزاب السياسية ومؤسسة الجيش وحسمت الصراع حول السلطة لصالحها.
كل هذه الأحداث السياسية التي ذكرنا بشكل مجمل دون الخوض في تفاصيلها، كان لها الأثر البالغ على مجال التربية والتعليم الذي كان حلبة صراع سياسي أكثر منه مجالا للتربية والتعليم والتكوين، وسيظهر هذا من خلال ما سنعرضه من مشاريع إصلاحية مترادفة، الطابع المميز لها أن كل إصلاح يلغي سابقه حسب ما تفرضه المتغيرات السياسية والصراع على السلطة.
2- سياق الإصلاحات التربوية في ظل الصراع على السلطة
نذكر هنا أن هذه الإصلاحات جاءت ضمن مخططات إصلاحية في المجال الاقتصادي في إطار بناء الاقتصاد الوطني للدولة الحديثة، نشير منها إلى ما يتعلق من إصلاحات في المجال التربوي والتعليمي.
– الحركة التعليمية كأول لجنة للإصلاح 1957 في عهد محمد الفاسي كأول وزير للتعليم بالمغرب بعد الاستقلال؛ ضمت ممثلين عن مختلف أنواع التعليم الموجودة آنذاك: التعليم الأصيل، التعليم الفرنسي الإسلامي، التعليم اليهودي، التعليم الفرنسي، التعليم الحر. كان من بين توجهاتها توحيد البرامج في مختلف أسلاك التعليم وتحديد سنوات الأسلاك الدراسية وإقرار سياسية التعريب بشكل تدريجي.
– اللجنة الملكية لإصلاح التعليم بالمغرب 1958 في عهد ثاني وزير للتعليم عمر بنعبد الجليل؛ حيث اعتمدت إصلاحات أقل ما يقال عنها حسب الأستاذ المكي الماروني إنها إصلاحات تعارض في العمق إصلاحات الحركة التعليمية “من حيث هيكلة الأسلاك التعليمية بالعودة إلى نظام الست سنوات بالتعليم الابتدائي، العودة إلى تدريس الحساب والمواد العلمية باللغة الفرنسية، الاهتمام بتكوين إعداد الأطر التربوية بدل مبدأ تعميم التمدرس، العمل باللجان الثنائية”.
– لجنة التربية والثقافة لإصلاح التعليم المنبثقة عن المخطط الخماسي 1960/1964 في عهد حكومة عبد الله إبراهيم (1958)؛ حيث بدأت اللجنة أشغالها في مطلع شهر أبريل 1959 ضمن مخطط اجتماعي وأنهت أشغالها في شهر غشت من نفس السنة، وسم تقريرها بـ”المذهب التعليمي”، ولعل أهم ما جاء به إقراره للمبادئ الأربع: التوحيد، المغربة، التعريب، التعميم، وفق مبدأ المدرسة الوطنية المنسجمة من حيث: (الثقافات والكتب المدرسية وعصرنة التعليم الأصيل والتوحيد والتعريب المعقلن)، مغربة الأطر والاحتفاظ بالازدواج اللغوي في أفق 1964، لكن أهم ما ميز هذه الفترة هو توقفه عن مبدأ التعريب في السلك الابتدائي سنة 1962، مما يؤشر على نوع من الصراع الخفي حول السياسة التعليمية والتي سيعبر عنها بشكل واضح في مناظرة المعمورة في عهد الدكتور بنهيمة كوزير للتعليم سنة 1964، وقد ضمت ممثلين عن الأحزاب السياسية والنقابية وشخصيات أكاديمية وثقافية، ولعل أهم مخرجات هذه المناظرة تمثل حسب الأستاذ المكي المروني في: (إحداث سلك أولي معرب وسلك ثانوي إعدادي مزدوج بأعداد محدودة، إثارة مشكل محدودية البنايات الدراسية، التفكير في التكوين المهني واستيعاب التقنيات الجديدة).
– المخطط الثلاثي 1965/1967؛ جاء هذا المخطط في ظل حالة الاستثناء التي أقرها الملك الحسن الثاني (1965) واغتيال المهدي بن بركة (أكتوبر 1965) وسن سياسة التقشف التي نهجها المغرب، والذي أسفر عن تقليص ميزانية التعليم واقتراح نموذج بيداغوجي قائم من سلكين في التعليم الابتدائي: سلك إلزامي معرب من ثلاث سنوات تتكفل به الجماعات الترابية، وسلك من أربع سنوات تتكفل به الدولة، بالإضافة إلى الاهتمام والعناية بالقطاع الخاص، والتعامل مع السلك الثانوي بنوع من النخبوية حسب الدكتور خالد البورقادي “نظرا لصعوبة استيعاب طوابير التلاميذ القادمين من السلك الابتدائي”.
– المخطط الخماسي 1968/1972؛ جاء هذا المخطط امتدادا وانسجاما لتوجهات واختيارات المخطط العام الذي قبله، الذي اعطى الأولوية للقطاع الصناعي وتشجيع الفلاحة التصديرية وتحديث وسائل الإنتاج، وسمي في شقه التعليمي بـ”المذهب الجديد للتعليم”، دعا تبعا لذلك إلى مواءمة النظام التعليمي لحاجيات سوق الشغل وإعداد اليد العاملة المؤهلة.
– المخطط الخماسي 1973/1977: أهم ما ميز هذا الإصلاح حدث المسيرة الخضراء وكذا تمزيق الجسم السياسي بتفريخ عدة أحزاب منها حزب التقدم والاشتراكية وحزب العمل 1974 وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية 1975، أما فيما يخص الإصلاح في المجال التعليمي فقد ركز على مبدأ تعميم التمدرس، وإن رأى الحد من ولوج التعليم العالي، كما ركز على مغربة الأطر والاهتمام بمجال التكوين.
– المخطط الثلاثي 1978/1980؛ قام هذا الإصلاح على سياسة التقشف؛ فاهتم بتنمية التمدرس بالعالم القروي ومتابعة خطة مغربة الأطر، ولم يبد اهتماما كبيرا لمبدأ التعريب، وكذا إقراره إشراك الجماعات المحلية في أمور محددة تمثلت في بناء المدارس وصيانتها وتسيير المطاعم.
– مشروع إصلاح عز الدين العراقي 1980؛ قام هذا الإصلاح على:
* توجيه التلاميذ نحو التكوين المهني استجابة لاحتياجات المقاولة.
* التحكم في الاستقطاب الجامعي حسب النقط والمقاعد المتوفرة، وهو ما لقي انتقادات ومعارضة شديدة مما استدعى تدخلا ملكيا تمثل في الدعوة إلى أيام دراسية حول التعليم في نهاية شهر غشت من السنة ذاتها، وهو ما سمي يومها بمناظرة إفران، حيث كان من أهم مخرجاتها تكوين لجنة وطنية للنظر في أعطاب التعليم وإعداد ميثاق وطني للتعليم.
من خلال هذا الجرد لمختلف الإصلاحات التي شهدها الحقل التعليمي إلى حدود بداية الثمانينات من القرن الماضي، يظهر عمق الأزمة التي عاشها هذا الحقل ولا يزال، وهي كما أشرنا أزمة منطلق وسياق. سياسيا؛ هي أزمة تعود جذورها من جهة إلى رغبة المستمعر الحفاظ على مصالحه المختلفة، ومن ذلك سعيه في استمرار سياسته التعليمية التي فرضها على المغاربة قبل الاستقلال، القائمة على التعليم الطبقي بدل التعليم القائم على الهوية الوطنية، ومن جهة ثانية إلى ما أفرزه الاستقلال من اختلاف بين مكونات الحركة الوطنية من جهة، وبينها وبين القصر من جهة ثانية، حول شكل النظام وهوية المجتمع، ودور القصر في الحياة السياسية. أما تربويا؛ فهي فرع من الأزمة السياسية، ففي ظل مناخ سياسي مشحون ومتوتر، جرى التعاطي مع قطاع التعليم بنفس غاب معه المشروع الوطني -حسب ما ذهب إليه الأستاذ محمد جسوس- واختلفت فيها وجهات النظر حول المبادئ الوطنية التي ينبغي أن يقوم عليها المشروع التربوي الوطني، أو ما عرف بالمذهب التعليمي (التعريب والتوحيد والتعميم والمغربة)، وهي مبادئ أفرزها حسب الدكتور محمد عابد الجابري “الضغط الشعبي في ميدان التعليم على الطبقة الحاكمة، ليتضح فيما بعد أنها كانت مجرد مسكنات لتجاوز ذلك الغضب، ولم تكن حلولا جذرية لمشاكل التعليم بالمغرب”. فالتخبط والعشوائية والارتجالية في التعاطي مع هذه المبادئ في كل الإصلاحات التي ذكرنا، تؤكد ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري، حيث مايزال المغرب لم يحسم بعد في نموذجه التعليمي الذي ظلت تتنازعه سياسات ومصالح وإديولوجيات الفاعلين في السياسة العامة لمغرب ما بعد الاستقلال.
إن بناء الأوطان لا يمكن أن يتحقق إلا بشرطين لازمين: الإرادة السياسية والاستثمار في مجال التعليم، أو على حد تعبير الأستاذ محمد عابد الجابري “دمقرطة التعليم الذي ينبغي أن يكون موحدا أمام جميع المغاربة”، وهذا ما لم يتحقق، حيث عاش المغرب بعد حصوله على الاستقلال لأكثر من عقدين من الزمن اضطرابات ومواجهات بين من وحدهم مطلب التحرر، وفرقت بينهم الصراعات على السلطة بالطرق والأساليب التي جعلت السنوات التي تلت الاستقلال توصف بسنوات الجمر والرصاص، فكيف لواقع بهذا المنطلق والسياق أن تعطى فيه الأولوية للنهوض بقطاع التعليم وبناء الأجيال؟