موقف العدل والإحسان من مغربية الصحراء.. قراءة في السياق والمضمون

Cover Image for موقف العدل والإحسان من مغربية الصحراء.. قراءة في السياق والمضمون
نشر بتاريخ

أما قبل، فيقتضي السياق الإلماح إلى إشارات ثلاث:

  • منع حرية الرأي وتنميط المخالف قد يكونان من أكثر معيقات التواصل، وأكبر وسائل التعمية من أعداء الكلمة الحرة. يزيد الأمر شراسة ومجانبة للصواب حينما يتم الاكتفاء بالهجوم اللاذع دون أن يكلف المرء نفسه الاطلاع على آراء الآخرين بعيدا عن المواقف المسبقة. في هذا الصدد لا بأس من التذكير بمنطلق من بمنطلقات جماعة العدل والإحسان الأصيلة في نظرتها لقضية الصحراء (رفض التجزيء)؛ يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله تعالى عليه، وهو يصف ما فعله المعمّر بنا من تجزيء لبلداننا واستغلال لثرواتنا ثم استمراره في ذات المهمة بعد أن أفل نجمه من خلال وكلائه وأذنابه حتى تسهل عليه السيادة: “العطب الفادح الذي أصاب المسلمين من جراء الاستعمار ليس نهب ثرواتهم ولا قتل رجالهم وتخريب ديارهم. العطب الفادح هو إقرار التجزئة في الواقع السياسي، وترسيخ الوعي التجزيئي في العقول والنفوس، وتمكين البنية التجزيئية في أرض الاقتصاد والإدارة، مشدودة إلى النظام الاستعماري الرأسمالي بأمراس من الفولاذ” 1.
  • ولأن الكيانات القزمية الضعيفة لا تصمد أمام طوفان القوى الكبرى، ولأن أمتنا مطالبة بإعداد القوة في كل مجالاتها، والتجزيء ضعف، فلا مكان لتشظية الأمة مُزعا في الوقت الذي تهفو النفوس لوحدة تلم شعثها وتجمع صفها.
  • الوطنية ليست عملة للتسويق، بل هي دين من الدين، ولا حق لأحد في أن يستعلي على آخر بوطنية مزيفة، فيستبيح بذلك حرمته تحت مسمى الغيرة على الوطن، لأن الوطن للجميع، وحب الأوطان من الإيمان.

السياق العام:

قرار مجلس الأمن 2797 الذي جدد ولاية المينورسو لسنة أخرى، واعتبر أن مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل الأكثر قابلية للتطبيق، وأساس رئيسي للتفاوض.

أهم ما ورد في بيان جماعة العدل والإحسان:

مثل غيرها من الفرقاء، وبأسلوب بياني مرتب، وبنبرة متوازنة تجمع بين الغبطة بالاعتراف بمغربية الصحراء، والتحذير من الوقوع في مزالق البهرجة أو الركون إلى العدو الحقيقي أو القبول بمقايضاته أو الغفلة عن المصالحة الوطنية، جاء بيان جماعة العدل والإحسان لـ:

  • التأكيد على وحدة التراب المغربي ورفض أي مشروع للتجزئة في المغرب الكبير.
  • القبول المبدئي بفكرة الحكم الذاتي بشرط أن يكون في إطار الديمقراطية، العدالة، الشفافية وبحكامة جيدة، فنجده بذلك يثبت الانحياز لوحدة المغرب ويعتبر الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية خيارا ممكنا ويشترط له أن يكون ذلك ضمن مشروع ديمقراطي شامل، وليس في إطار استبداد وفساد.
  • رفض واضح لاستعمال ملف الصحراء ورقة داخلية للتغطية على الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
  • ربط ملف الوحدة الترابية بملف الديمقراطية والعدل الاجتماعي، إذ لا وحدة قوية بدون شعب مشارك فعليا في القرار السياسي.
  • موقف واضح من المقايضة بثروات البلاد أو ربط حل الصحراء بالتطبيع مع الكيان الصهيوني.
  • التطبيع ثمن غير مقبول مهما كان المقابل السياسي.
  • الدعوة إلى المصالحة الوطنية والانفراج السياسي والحقوقي من خلال إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، شرطا لبناء جبهة داخلية موحدة، وهذا مطلب منطقي لأن الوحدة الترابية تحتاج إلى وحدة داخلية حقيقية.

الخلاصة أن البيان يؤكد على مغربية الصحراء، ويربط في الوقت ذاته بين سيادة المغرب على صحرائه، وبين السيادة الشعبية على القرار السياسي داخليا، وهذا طرح يؤكد على أن القوة تبدأ من الداخل، ويقول نعم نحن مع الصحراء المغربية، لكننا ضد أن تُستعمل الصحراء لتبرير الاستبداد أو التطبيع أو نهب الثروات.

بين السيادة الترابية والسيادة الشعبية

يربط بيان جماعة العدل والإحسان بين السيادة الترابية والسيادة الشعبية في إطار واحد متكامل؛ وهذا مطلب أكيد يجعل الشعب منخرطا فعليا في تحديد السياسات، والمشاركة في بناء الاستراتيجيات، فلا معنى، في تصوره، لدفاع قوي عن وحدة الوطن ما لم يسنده شعب يمتلك قراره ويشارك فعليا في رسم توجهاته الكبرى. السيادة هنا ليست مجرد شعار قانوني أو خطاب رسمي، بل هي منظومة متداخلة تجعل من حماية الحدود مرتبطة بـتحرير الإرادة السياسية في الداخل.

بهذا المعنى، تصبح السيادة الترابية على الأقاليم الجنوبية مشروطة بوجود سيادة شعبية فعلية على القرار السياسي عبر:

  • إشراك المواطنين والمواطنات في بلورة الخيارات الاستراتيجية المتصلة بملف الصحراء.
  • فتح المجال العمومي للنقاش الحر والتعددية.
  • جعل المؤسسات المنتخَبة ذات وزن حقيقي في صناعة القرار، لا مجرد واجهة شكلية.

هذا الربط يعيد تعريف مفهوم القوة الوطنية؛ فليست القوة الوطنية، في هذا التصور، مجرد رصيد من الاعترافات الدولية أو حصيلة من القرارات الأممية الداعمة للموقف المغربي، بل هي أساسا تماسك داخلي يقوم على ثلاثة أبعاد متكاملة:

  • المشاركة السياسية: أي حضور فعلي للشعب في صناعة القرار، انتخابا ورقابة ومحاسبة.
  • العدل الاجتماعي والمؤسسي: بما يحد من الإقصاء والفساد، ويُشعر مختلف الفئات بأنها شريكة في الوطن لا هامشا له.
  • ضمان الحقوق والحريات: بما فيها حرية التعبير والتنظيم، بوصفها شرطا لقيام رأي عام واع ومسؤول.

في ضوء ذلك، يصبح الدفاع عن السيادة الترابية أقوى وأمتن حين يُبنى على قاعدة من الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، ومن الشعور العام بأن الوطن ليس مجرد فضاء ترابي تُحرس حدوده، بل أيضا مشروع سياسي وأخلاقي مشترك تصان فيه كرامة الإنسان كما تصان وحدة الأرض.

بين الداخل والخارج وبين الوطني والأممي

البيان يرفض منطق الفصل الحاد بين الداخل والخارج وبين الوطني والأممي؛ وينظر إلى هذه الدوائر لا باعتبارها عوالم منفصلة لكل منها منطقُه الخاص، بل باعتبارها حلقات متداخلة في رؤية استراتيجية واحدة. فطريقة تدبير ملف الصحراء، مثلا، ليست قضية دبلوماسية معزولة عن طبيعة النظام السياسي، ولا عن قضية توزيع الثروة داخليا، ولا عن موقع المغرب من قضايا الأمة وفي مقدمتها فلسطين.

من هنا يبرز الربط بين الصحراء والديمقراطية والثروة وفلسطين بوصفه ربطا واعيا لا تجميعيا؛ فـملف الصحراء يختبر مدى جدية الدولة في إشراك الشعب وفي بناء إجماع وطني ديمقراطي لا مكان فيه للعصا المخزن القمعية، وملف الديمقراطية يكشف ما إذا كانت الشرعية الداخلية متينة بما يكفي لتحمل أعباء الملفات الخارجية الحساسة، وسؤال الثروة يطرح مشروعية الخيارات الاقتصادية التي تمول بها تلك السياسات، ومن يستفيد فعليا من عوائدها، هل عموم المواطنين، أم فئات محدودة مستنزفة لثروات البلاد وأقوات العباد.

أمّا فلسطين فتمثل، في هذا التصور، ميزانا أخلاقيا يختبر صدقية الخطاب الرسمي حول السيادة والحرية ورفض الهيمنة الأجنبية.

بهذا المعنى، ليس من الممكن، في أفق البيان، الدفاع عن قضية وطنية مثل الصحراء بخطاب سيادي، مع القبول داخليا بالاستبداد أو خارجيا بالتطبيع والتبعية؛ بل تأخذ هذه الملفات طابع المنظومة الواحدة التي تعكس طبيعة الاختيار السياسي برمته، وتربط بين متانة الجبهة الداخلية، وعدالة توزيع الثروة، واستقلال القرار الخارجي، والانحياز المبدئي لقضايا الأمة.

الشرعيات الثلاث

استنادا إلى كل ما سبق، فإن بيان العدل والإحسان يؤكد على شرعية ثلاثية:

  • الشرعية الوطنية: والمقصود بها أن أي فاعل سياسي جاد في المغرب لا يمكنه أن يتجاوز قضية الوحدة الترابية أو يتعامل معها وكأنها ورقة قابلة للمساومة أو التجاهل. فهي شرط مسبق للاجتماع الوطني، وحد أدنى من التوافق بين مختلف الحساسيات. فحين لا ترى الجماعة دون الوحدة الترابية محيدا وأن هذا المطلب ملح لا يقبل التنازل عنه، فهي تضع نفسها داخل الإجماع الوطني حول الصحراء، وتؤكد أن اختلافها مع النظام ليس في أصل الملف، بل في طريقة تدبيره وإدارة الشأن العام وبناء الدولة.
  • الشرعية الديمقراطية: فلا قبول بالاستبداد، لأنه أساس كل فساد، وهنا تنتقل الجماعة من سؤال “من يحكم؟” إلى سؤال “كيف يحكم؟”، فهي تربط مشروعية أي نظام سياسي بمدى خضوعه لقواعد الاختيار الحر، والتداول على السلطة، واحترام الإرادة الشعبية.

وبرفضها للاستبداد، لا تكتفي جماعة العدل والإحسان بإدانة سلوك سياسي معين، بل تعتبر أن غياب الديمقراطية جذر لمعظم أوجه الفساد من أمثال نهب الثروات وتهميش فئات واسعة من الفاعلين وضعف المؤسسات وغيرها، لأن الديمقراطية ليست ترفا فكريا أو مطلبا سطحيا، بل شرطا من شروط الشرعية السياسية.

  • الشرعية الأخلاقية: هذا البعد، في حد ذاته، يوسع أفق النقاش من الداخل الوطني إلى الانتماء للأمة وقضاياها المركزية، وعلى رأسها فلسطين. حيث لا تنازل عن القضية الفلسطينية، ولا مجال للمقايضة بالحق الفلسطيني في تحرير الأرض وتقرير المصير؛ لأن الدفاع عن فلسطين معيار أخلاقي يحكم الموقف السياسي الخارجي والداخلي:

خارجيا: رفض التطبيع الذي يحوّل قضية احتلال إلى ملف علاقات ينبني على وعود بتحقيق مصالح موهومة.

داخليا: اعتبار الموقف من فلسطين اختبارا لضمير النظام السياسي، ولحدود خضوعه لضغوط الخارج أو حسابات المصالح الضيقة.

قضية الصحراء مرآة لطبيعة النظام السياسي

بهذا المعنى، تصبح قضية الصحراء مرآة لطبيعة النظام السياسي أكثر من كونها مجرد ملف دبلوماسي خارجي؛ إذ حينما نجمع الأبعاد الثلاثة الوطنية والديمقراطية والأخلاقية، تصبح قضية الصحراء مِحكا لاختبار طبيعة النظام السياسي؛ هل يدير هذا الملف بروح وطنية تشاركية أم بمنطق احتكار القرار؟ وهل يُستخدم الإجماع حول الصحراء لتعزيز الديمقراطية ووحدة الصف، أم لشرعنة الاستبداد وقمع المعارضين بحجة المقدسات الوطنية؟ وهل يراد من هذا الملف أن يقوي موقع المغرب الأخلاقي في دفاعه عن قضايا العدل والحرية ومنها فلسطين، أم يُستعمل كباب لصفقات وتنازلات في ملفات أخرى؟

بهذا نفهم أن البيان، لا يكتفي بالدفاع عن الصحراء كقضية ترابية، بل يجعل طريقة التعامل معها كاشفة؛ فإذا كانت الشرعية الوطنية مضبوطة بالشرعية الديمقراطية والأخلاقية، تصبح الصحراء ملفا يوحد ويُصلح؛ وإن غاب هذان البعدان، تتحول إلى مرآة تُظهر اختلالات النظام أكثر مما تُغطيها.

خاتمة

لا يخفى على الناظر قوة البيان وتنوع مداخله، ووضوح هويته، وشمولية نظرته، وانسجام مرجعيته الجامعة بين المرجعية الإسلامية والوطنية والمناصرة لأرضنا المقدسة، مع خطاب ديمقراطي واضح من حيث تشخيص الخلل؛ فلا للاستفراد بالقرار، ولا للتوظيف في غير ما يخدم الوطن والأمة، ونعم للانفراج الحقوقي والمصالحة الوطنية.

أهداف من المفروض أن تكون محل إجماع وفخر جماعي، لا موطنا للتنابز والمقايضة بين وطنية حرة تسعى صادقة لخدمة الوطن، ولا يعيبها أن تعبر عن مواقفها الصريحة الواضحة دون محاباة ولا تزلف، وبين وطنية مزيفة همها الاصطياد في الماء العكر، وتغيير الحقائق، وقيادة حرب ضروس لتشويه الأحرار والتشويش على مواقفهم التي لا تتبدل.

أما بعد،

ختاماً، فمبارك علينا هذا الاعتراف بجزء كنا نراه دائما لا ينفك عن تراب الوطن، وطن هو في أمس الحاجة إلى جهود كل أبنائه وبناته، والأمل معقود أن يتحرّر كل شبر من ربوعه، وأن يعاد بناؤه اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وقيميا على أساس العدل والحرية والكرامة للجميع، في ظل مشاركة شعبية واعية تتعهد وحدته وتُزكي خياراته، فيومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

 


[1] عبد السلام ياسين، كتاب العدل، ص 216 ، 217.