مولد الهادي البشير ميلاد انتصار على الباطل

Cover Image for مولد الهادي البشير ميلاد انتصار على الباطل
نشر بتاريخ

إذا كانت منن الله على المسلمين لا تحصى ولا تعد، فأعظم منة أهداها الله للعالم بأسره هو ميلاد النبي المختار صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ابتهج الكون بثقليه وكل موجوداته فرحا بقدوم الهادي البشير، ماحي الظلم والظلمات، الرحمة المهداة للعالمين. وتزينت بقاع الأرض لمقدم خير البشر، باعث الرحمة والأمن والأمان للبرية جمعاء.

يحل الربيع النبوي بنفحاته الزكية، يشهد لأطوار ميلاد هذه الأمة المحمدية التي أخرجها الله للناس ببلاغ التوحيد والحنيفية السمحاء. أحيا الله بالنبوة القلوب بعد موات طبعه الكفر والشرك، وكان حريصا على هداية الناس إلى الصراط المستقيم بعد أن بين لهم الهدى والحق من الباطل والضلالة. وكان حرصه أشد على نشر التراحم بدل الظلم والطغيان، لا يرضى الدنية في الدين وفي أن تنتهك حرمات الله ومقدسات المسلمين. فقد استجاب لربه طاعة وتعظيما لجناب مولاه عز وجل حين أمره بقتال المشركين والكفار لتحرير البيت الحرام من أوثان الشرك، قال سبحانه وتعالى: فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة: 191]. فالأرض أرض الله لا يرثها إلا عباده الصالحون المصلحون، أمر سبحانه بمجابهة المفسدين فيها، الطغاة المتجبرين على عباده، المعتدين على مقدساته وحرماته.

1- مولد بشارة ونذارة

يفرح المسلمون اليوم بميلاد البشير النذير فرحا ممتزجا بغصة مختنقة وهم يشاهدون أحوال غزة وفلسطين وحرب الإبادة الصهيونية عليهم. فمنذ ما يزيد عن 700 يوم وإسرائيل تسوم المستضعفين في القطاع المحاصر من سبل الحياة سوء إجرامها وطغيانها. لم يسلم لا شجر ولا بشر ولا حجر ولا مورد ماء أو غذاء من فتك الآلة الصهيونية المغتصبة. يتعنت الاحتلال باستكباره على العزل والمستشفيات والإسعاف، ويسفك بدم بارد طوابير الأطفال والنساء وهم يحملون أكياس الطحين وبعض المساعدات المتناثرة على أديم الركام..

يحل الربيع النبوي بأنواره وأدخنة علو الاستكبار تغطي غزة الأبية. يطل علينا الرحمة المهداة للأمة وللعالمين صلوات ربي عليه في ذكرى مولده وأنظمة الجبر العربية الإسلامية تتفنن في خذلان غزة صمتا عن الحق، وتقاعسا عن الإمداد والدعم المادي والمعنوي، بل تبالغ في فتح أذرعها للتطبيع مع مشروع الصهيونية المفسد. ينجلي في أفق الأمة بصيص الخير؛ فاليمن اليمان قد رفعت علم فلسطين منذ أحداث السابع من أكتوبر وبداية الطوفان المقدسي، وأرعبت بشموخها البطولي علو اليهود دعما وإسنادا، وقدمت شهداء في أرضها برا وبحرا. الطوفان اليمني حلف من قبس النبوة مع حق المستضعفين الذين يتعرضون للإبادة بشتى ألوانها وعالم الاستبداد العربي والاستكبار الغربي الموالي للصهيونية يتفرج من أبراج قصوره الظالمة الطاغية. فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسى قواعد الإيمان في وجه الكفر، والعدل والكرامة في وجه الظلم والطغيان، وحث على إنصاف المظلوم كيفما كانت عقيدته.

لا تنال رحمة الله عز وجل إلا بمحبة النبي صلى الله عليه، ومحبته تقتضي اتباعه في المنشط والمكره وفي السلم والحرب. رحمة تصلح وتقوم سلوك الإنسان وتجتث الإفساد في الأرض وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56]. ما نال الصحابة تلك الخيرية الشامخة عبر التاريخ إلا بعد الهجرة والنصرة والانقياد التام لرسولهم في جهاد الباطل والطاغوت. ما ولوا الدبر عند زحف عدو الله ورسوله، وما خنعوا لاستكباره، وما ارتضوا الذلة في دينهم.

حال المسلمين اليوم مخجلة في عيد مولده بعد أن ركنوا للاستبداد ودعة الدنيا واكتفوا باجترار روايات التصهين المقيتة. يستغل العدو المحتل والاستكبار الداعم له وهن المسلمين ليجرف تراب ورمل غزة من ساكنيها، ويهدم المباني والعمران المهترئ جراء القصف المتواصل، ألا يتساءل المسلم في الألفية الثالثة الطامع في شفاعته صلى الله عليه وسلم، وورود حوض كوثره، يظهر الخشوع لها على المنابر وفي الخطب والمواعظ، ما الذي قدمه عند ربه لأجل بيت المقدس وصية النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا منح لأجل الإنسانية المستباحة في غزة؟ وهل فكر وقدر كيف يستطيب عبق إنسانيته ويستمتع بآدميته أمام مشاهد المحرقة البشعة للناس وسكناهم وخيامهم التي ترتكبها يوميا يد الإجرام الصهيوني؟

تجيب سواعد الرجال في أنفاق غزة بأقدامهم الحافية وأجسادهم التي أضناها التجويع كما فتك بشعب القطاع المحاصر منذ بداية الطوفان المجيد: إنهم على عهد رسول الله باقون، صابرون محتسبون في زمن عز  فيه الرجال والإيمان الحقيقي بالله ورسوله والدار الآخرة. المقاومة في القطاع على مدار  700 يوم تثخن في العدو، وتنكل به، وتعطيه دروسا في الفئة القليلة المنصورة بفضل رب العالمين حين تخذلها الأمة الغثاء المليارية. يعلمون الأمة كيف يكون الاتباع الشامل لمحجته البيضاء، ليلها كنهارها في سراء الحياة وعند زحف العدو، وليس تسطيحا لسنته وحبسها في فقه الفروع والاختلاف.

رجال المقاومة ومعهم من أسندوهم من ثلة أحرار الأمة في جبهات عدة فقهوا ما تنزل على نبيهم صلوات ربي عليه من الوحي، حين تحدث عن سنن الله في الكون وعن المثلات. إن فلسطين ابتلاء هذه الأمة العظيم شرقها وغربها وجنوبها وشمالها. تستنهض النبوة ومعها القرآن همم المسلمين، جهاد مدافعة الحق للباطل ومقارعة الطغيان والعدوان لم ينته مع أهل بدر وأحد وغيرها من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، فذاك أول الزرع النبوي في هداية العالمين وإقامة عمران التوحيد. طوفان غزة طوفان على خطى النبوة في مواجهة البغي في الأرض. “إنها مواجهة كونية هائلة بين حق الوحي و’ظن الجاهلية’، بين أخلاق الإسلام و’تبرج الجاهلية”، بين أخوة الناس جميعا والتسامح والرحمة وبين ‘حمية الجاهلية’، بين عدل الإسلام وشورى الإسلام وبين ‘حكم الجاهلية’” 1. رجال غزة الأحرار في مواجهة عنيفة غير مسبوقة مع روح الجاهلية الصهيونية التي تحكم وتقود وتسيطر على رقاب العالم. من بركات التربية النبوية أن المسلم المؤمن يعيش بين اليقين في موعود الله بالنصر لعباده المعتصمين بحبل النبوة والعروة الوثقى، وبين إعداد العدة. يتخذون من أسباب الأرض والسماء عدة وعتادا لمقاومة الاستكبار في كافة الثغور، موقنين أن سنن الله يحركها رب العزة أنى شاء ومتى شاء والعاقبة للمتقين.

2- ربيع الشهداء في غزة الإباء

 يقول الله عز وجل على لسان رسوله عيسى عليه السلام: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6]. بشر الله العالمين، ومن قبل الرسل والأنبياء، بمولد الحبيب المصطفى وخاتم الرسالات وبقرب زوال الباطل ومحو الضلال ودك أوتاد الطاغوت في كونه عز وجل، قال الله تعالى مجيبا عبده ورسوله موسى عليه السلام بعد أن ذاق ذرعا بعتو بني إسرائيل واستكبارهم على الحق سبحانه ودعوة الرسل: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156]. إن الرسالة المحمدية الخاتمة امتداد حنيفي لشريعة موسى عليه السلام ومن سبق ولحق من أنبياء الله صلوات ربي عليهم، وصاحب الرسالة صلوات ربي عليه هو البشرى ببزوغ أمة عظيمة شاهدة على باقي الأمم، ونبي شهيد وشاهد بالحق إلى يوم الدين، لكن بشرط إلهي متمثل في تمام الاتباع لمنهاج النبوة وتبليغ الرسالة الربانية الداعية إلى العدل والإيمان وضمان حقوق العباد وإنسانيتهم. رحمة الله لصيقة برحمة البشير النذير، وسعته صلى الله عليه وسلم وبدوره نشرها في أمته وفي العالمين إلى يوم الدين، فهو الحبيب الذي آثر الرفيق الأعلى وكان عبدا شكورا.

يقول رب العزة مشيدا بالعصابة المحمدية المرحومة التي حسن اتباعها ظاهرا وباطنا، سلوكا وجهادا: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف: 157]. تكشفت أزمة الأمة الحقيقية اليوم بعد السابع من أكتوبر بأنها محنة سوء اتباع النبوة، وإعراض عن مسار النبوة، وحرب معلنة ضد أتباع نور النبوة. وما استهداف المقاومين في غزة وغيرها وأحرار الحق والدفاع عن المستضعفين إلا حرب مباشرة يشنها إجرام الاستكبار العالمي ومعه الاستبداد العربي على منهاج النبوة الرامي إلى الانعتاق من عبودية الطاغوت الأكبر روح الجاهلية.

بات أكيدا لدى الاستكبار أن مشروعهم الإفسادي في الأمة الإسلامية وقطب رحاه احتلال غزة وفلسطين، ماض إلى فشل واضمحلال إن استمسك المسلمون بحبل القرآن والنبوة. وليعلم المسلم حقيقة تدركها مسبقا دول الاستكبار العالمي منذ زمن بعيد أن نور اتباع النبوة رحمة تطفئ غطرستهم، ورفق يحرق إفسادهم، وسلم يدك أطماعهم السياسية والاقتصادية، وخلق قرآني يمنع اختراقهم لفطرة الناس. لذلك فحرب الإبادة على غزة جزء صغير من مشروع الاستكبار العالمي لشل حركة الأمة أن تدور حول القرآن والنبوة. إن رسالة خاتم الرسل جاءت بتمام الأخلاق والدين والرحمة. ومن رحمته صلى الله عليه وسلم إغاثة الملهوف وحمل الكل.

طوفان الأقصى كشف ستر غثائية الأمة كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته. يقول أهل غزة أمام عدسات مواقع التواصل: ليست الحرب هي الأشد إيلاما وإنما خذلان العرب والمسلمين أصابت فينا المقتل. حرصت النبوة العصماء على إغاثة المظلوم وإجابة الملهوف وتفريج الكرب. فـ“عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة” 2. فتقديم العون والنصرة لمن يحتاج واجب المسلم نحو أخيه. وفي وقت تتوالى فيه حرب الإبادة على غزة وقد جاوزت عامها الثاني لا تزال المقاومة وحاضنتها الشعبية تستنصر أمة الإسلام بأن تقف على ثغر الدعم والمنافحة، والإمداد والغوث المادي والمعنوي لما تبقى من الأحياء من النازحين في القطاع، فقد أثخن فيهم الحرق والقتل والتجويع والتعطيش والمرض…

بات فرض عين وواجبا على عاتق المسلم أن ينصر ويغيث أهل غزة ليستكمل دينه وإيمانه. فما فتئ النبي صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على المواساة والتكافل ونبذ الأنانية والفردانية. فحين نهى عن الجلوس في قارعة الطرقات رغب صلى الله عليه وسلم في أن يعطي المسلم حق الطريق. يروي الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم جلوس في الطريق. قال: “إن كنتم لابد فاعلين فاهدوا السبيل وردوا السلام وأغيثوا المظلوم” 3. وعن نصرة المظلوم يروي البخاري عن البراء بن عازب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بسبع (ومن جملتها): “نصر الضعيف وعون المظلوم” 4.

بعد تخلي وتقاعس الأمة القابعة شعوبها تحت وطأة الاستبداد الغاشم عن تقديم المدد لفلسطين ونسيان قضيتها، أضحى ضربة لازب قيام الأمناء الأحرار من الأمة لإحياء وترسيخ فريضة النصرة والإغاثة للمستضعفين بالحال والمقال، تأسيا برسولهم الكريم، وإلا فالدين الخالد والله ورسوله من المسلمين براء.

إن غزة تقدم الشهداء في كل حين، بدمائهم الزكية الفواحة مسكا تكتب حروف الصمود والثبات واليقين. هم ربيع يانع بعبق الشهادة وطلب الآخرة ونيل الشفاعة النبوية وسط خريف ما أصاب الأمة من غثائية خنوعة وداء الركون للدنيا وكراهة الموت.


[1] عبد السلام ياسين، سنة الله، ط 2005/2، مطبعة الخليج العربي-تطوان، ص 119.
[2] صحيح مسلم كتاب البر والصلة وتحريم الظلم، رقم2580، ج8/18.
[3] مسند أحمد بن حنبل، رقم 103، ج8، ص4231.
[4] صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، رقم 6235، ص52.