الله سبحانه وتعالى اصطنع حبيبه سيدنا محمدًا ﷺ لنفسه وعلى عينه عز وجل، وألقى عليه محبةً منه سبحانه وتعالى، وزيَّنه وجمَّله بأنوار الرحمة الربانية، وجعله محلَّ صنعته وإحسانه وقربه. وقال الله تعالى في حقه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
فكان مولانا محمد ﷺ كلُّه رحمة: كلامُه رحمة، فعلُه رحمة، حركاتُه وسكناتُه رحمة، كل شيء فيه رحمة. عليه الصلاة والسلام، يقول عن نفسه: «أنا نبي الرحمة» (رواه الإمام أحمد). ويقول ﷺ: «يا أيها الناس، إنما أنا رحمةٌ مهداة» (رواه البخاري). وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما بُعثتُ رحمةً» (صحيح الجامع).
أُرسل ﷺ رحمةً للعالمين، رحمةً لجميع المخلوقات: للإنس والجن والملائكة، وللحيوانات والجمادات، وللشجر والحجر، لكل شيء في هذا الكون العظيم. صلى الله عليه وسلم. يقول القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفا (ص 119): “قال أبو بكر بن طاهر: زيَّن الله تعالى محمدًا ﷺ بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق. فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب”.
فكيف كان العالم، وكانت البشرية والإنسانية جمعاء قبل بعثة نبي الرحمة والمرحمة صلى الله عليه وسلم؟
إن الدارس لتاريخ الإنسانية يعرف جيدًا كيف كانت تعيش شعوب الأرض قبل البعثة المحمدية. لقد عانت شعوب العالم، من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، من الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والانحراف الديني والأخلاقي. لا مكان للرحمة والشفقة واللين واللطف والرأفة في هذا العالم، لا يوجد فيه سوى القسوة والغلظة والشدة والعنف والإرهاب والاستبداد والاستعباد والجور والظلم والقهر والشقاء. حتى جاءت البعثة النبوية الرحيمة، لتعم الإنسانية رحمةً وعطفًا ورفقًا ولينًا وهدايةً ونورًا وسعادةً ومحبةً. إنه ﷺ نبي الرحمة والمرحمة والمحبة وكفى.
في هذا المقال نتطرق لبعض معالم وتجليات الرحمة لمولانا رسول الله ﷺ، وإلا فإن سيرته وحياته ﷺ كلها مشمولة بالرحمة.
1- الرحمة بالأطفال
أ- الرحمة بالبنات
لقد كانت العرب في الجاهلية يقتلون فلذات أكبادهم؛ بناتهم، بدفنهن في التراب خوفًا من العار. وقد وصف الله تعالى بربريتهم ووحشيتهم الجاهلية بقوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58-59].
في حين كان مولانا محمد ﷺ قبل البعثة أشدَّ فرحًا وسرورًا بمولد بناته عليهن السلام. وقد أكرمه الله تعالى بأربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة الزهراء عليهن السلام. وقد ثبت أنه ﷺ قال لما بُشِّر بفاطمة الزهراء عليها السلام: “ريحانة أشمُّها ورزقُها على الله” (العقد الفريد). وكان ﷺ يحملُهن على كتفه الشريف فرحًا بهن، ويطوف بهن أزقةَ وشعاب مكة المكرمة والكعبة المشرفة.
ب- الرحمة بالأولاد
ومن صور بربرية ووحشية العرب في الجاهلية قتل أولادهم خشيةَ الفاقةِ والفقرِ. قال الله تعالى واصفًا أفعالهم المشينة: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الإسراء: 31].
بينما كان رسول الله ﷺ يحبُّ الأطفالَ ويَحنُّ عليهم، ويتودَّدُ إليهم بالشفقة والرحمة والمرحمة. وهو الذي تَبَنَّى سيدَنا زيدًا بنَ حارثةَ وهو طفلٌ صغيرٌ، وكان بيته ﷺ يضمُّ ساداتنا عليًّا وزيدًا والقاسمَ قبل موته، وبناتهِ الأربعَ رضي الله عنهم أجمعين. وكان بيتًا سعيدًا مباركًا ببركة سيدنا محمدٍ ﷺ وببركة أمنا خديجةَ رضي الله عنها.
روت أمنا عائشةُ رضي الله عنها رحمةَ وحنوَّ وشفقةَ رسولِ الله ﷺ على الأطفالِ، لما جاء رجالٌ إلى رسولِ الله ﷺ وهو يقبّلُ حفيدهَ الحسنَ رضي اللهُ عنه، فقالوا: «أَتُقَبِّلُونَ صِبْيانَكُمْ؟» فقال عليه الصلاة والسلام: «نَعَمْ». فقالوا: «لَكِنَّا واللهِ ما نُقَبِّلُ». فقال رسولُ الله ﷺ: «أَوَأَمْلِكُ إن كانَ اللَّهُ نَزَعَ منكمُ الرَّحْمَةَ؟» (متفقٌ عليه).
والرواياتُ مستفيضةٌ في رحمةِ الرسول ﷺ بالأطفالِ؛ فكان ﷺ يسرعُ ويخفّفُ صلاةَ الجماعةِ عند سماعِ بكائهم، وكان يحملُ الصغارَ إذا سجد في الصلاةِ ويحملهم إذا قامَ -كما فعل مع حفيدتهِ أمامةَ بنتِ زينبَ عليها السلام-، وكان يصبرُ على آذاهم، ويبكي ويحزن لموتِهم، كبكائه عندما فقدَ ابنيهِ القاسمَ وإبراهيمَ رضي الله عنهما. وكان يواسي الأطفالَ عند المصائبِ والآفاتِ والأحزانِ، كمواساته لعميرٍ أخي أنس بن مالك رضي الله عنهما حين مات له عصفورٌ فحزنَ على موتهِ، فقام الرسولُ ﷺ بمواساته والتخفيف عن حزنه حيث قال له عليه الصلاة والسلام: «يا أبا عميرٍ، ما فعلَ النغيرُ؟» (رواه مسلم).
وكان ﷺ يهنئ أصحابَه بالولاداتِ الجديدةِ بناتٍ وأولادًا، ويحتفي بهم، كفرحِه بولادةِ عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ، ويدعو لهم بالبركةِ.
وما يزيد الدارس لسيرة رسول الله ﷺ تعلقًا وحبًّا وعشقًا له أنَّه كان يعطي أوامرَه لقادَتِه الصحابةَ المجاهدين في الغزواتِ والسرايا بعدمِ قتلِ الأطفالِ والنساءِ رحمةً بهم. وما يزيده توقيرًا وتعظيمًا وتبجيلًا لرسولِ الله ﷺ أنَّه كان لا يُشركُ أطفالَ الصحابةِ في المعاركِ والحروبِ؛ فقد رفضَ إشراكَ أسماءٍ من الصغارِ كأسامةَ بنَ زيدٍ وعبدِ اللهِ بنِ عمرٍ وزيدِ بنِ ثابتٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وغيرهم، لدواعي صغرِ سنِّهم رغم إصرارِهم على المشاركةِ في الجهادِ والقتالِ. وفي غزوةِ أحدٍ بالخصوصِ كان رسولُ الله ﷺ في حاجةٍ ملحَّةٍ إلى الإسنادِ والدعمِ لقِلَّةِ جيشه من الصحابةِ، في حين أنَّ جيشَ العدوِّ الوثنيِّ القريشيَّ يفوقه عدَّةً وعتادًا وعسكرًا وقياداتٍ حربيةٍ متميزة، خصوصًا بعد غدرِ اليهودِ وخيانةِ المنافقين الذين انسحبوا ومعهم ثُلثُ الجيشِ، ومع ذلكَ الحبيبُ المصطفى ﷺ أبى ورفض مشاركةَ الأطفالِ في هذه الحربِ الداميةِ.
وممَّا يحزُّ في النفسِ في عالمِنا اليوم، حين انسلخَ وتجردَ العالمُ من إنسانيّتهِ، أن نرى الطفولةَ البريئةَ تنهارُ: نراهم في غزةَ العزةِ أشلاءً متراميةً في ربوعِها، وأطفالًا أصبحوا بإعاقاتٍ مستديمةٍ؛ إما مقطوعي أطرافٍ من الرجل أو اليد، أو فقدوا البصر، وأطفالًا يموتون عطشًا وجوعًا.. ومن صور الإجرام السوداء للصهاينة المجرمين؛ صورةُ الطفلةِ الغزاويةِ التي قُتلت بوحشيةٍ وبربريةٍ مشينةٍ مفرطةٍ حيث أطلقَ عليها العدوِّ المتوحِّشِ البربريِّ الصهيونيِّ 355 طلقةً بالرصاص. حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ.
2- الرحمة بأهل بيته
أ- الرحمة بالزوجة
كان صلى الله عليه وسلم رحيمًا، عطوفًا، حنونًا، محبًّا لأزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. وكتب السِّير والحديث والتاريخ مستفيضة في حسن تعامله وتَبَعُّله ﷺ مع أزواجه. وأقف مع أمنا خديجة عليها السلام كنموذج فاضل لتعامل نبي الرحمة ﷺ في حسن التبعُّل بالرحمة والشفقة والحنو والتعطُّف مع أحب أزواجه إلى قلبه ﷺ؛ أمنا خديجة رضي الله عنها. فقد كان بيتهما الزوجي أسعد بيت في الوجود. دام زواجهما خمسًا وعشرين سنة: خمس عشرة قبل البعثة، وعشرًا بعدها.
في هذه السنوات الطويلة، لم تشكُ ولم تضجر، ولم تنزعج أمنا خديجة رضي الله عنها من خُلق الرسول ﷺ، فقد كان الزوجَ الصالحَ، رحيمًا، عطوفًا، محبًّا، وفيًّا لها قبل وفاتها وبعد وفاتها. وقد رأينا كيف أن العرب في الجاهلية كانوا يدفنون بناتهم في التراب وهنَّ أحياء. تتعذب المرأة تسعة أشهر من الحمل، ثم تواجه آلام المخاض، ثم تضع مولودها البنت، فيأتي الرجل فيخطفها من حضن أمها ويدفنها في التراب… أمَّا المحبوب رسول الله ﷺ، فعندما تأتيه البشرى بوضع أمنا خديجة رضي الله عنها مولودها البنت، فقد كان بقربها ينتظر، يطير فرحًا وسعادةً، يحمل البنت ويُقبّلها، ويُقبّل جبين زوجته أمنا خديجة رضي الله عنها، ويُسرّها بما تحب. وهكذا كان حاله وخُلقه مع جميع زوجاته وبناته وأولاده. وعند وفاة ولده القاسم رضي الله عنه نجده مواسيًا مساندًا لزوجه أمنا خديجة رضي الله عنها حتى لا ينكسر قلبها من الحزن. بل إنها رضي الله عنها كانت تواسي رسول الله ﷺ عندما ترى حزنه وبكاءه الشديد على مولودهما. (انظر كتب السِّير).
كان بيتهما قمة في السعادة والكرامة والبركة والرحمة والرأفة، رغم كثرة ساكنيه؛ فكان يضم بنات سيدنا محمد ﷺ الأربع عليهن السلام، وسيدنا عليًّا، وسيدنا زيدًا رضي الله عنهما، والقاسم قبل وفاته. وكان ﷺ رحيمًا رؤوفًا بزوجته، قرة عينه أمنا خديجة رضي الله عنها، محبًّا وفيًّا لها، لم يتزوج عليها في حياتها، وحزن عليها حزنًا شديدًا عظيمًا عند وفاتها حتى سُمِّي العامُ الذي تُوفيت فيه عامَ الحزن. ونراه ﷺ يغسلها ويحنطها ويكفّنها، ويحفر قبرها بيديه الشريفتين في مقبرة الحَجُون (المعلات) -مقبرة الطيبين- وينزل فيه ويضطجع، ثم يأخذها ويدفنها بيديه الشريفتين بجانب ابنهما القاسم، وهو يتألم حزنًا والدموع تجري على خدّيه الشريفين ﷺ. (انظر محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد رضا شريف).
ب- الرحمة بالأبناء
كان رسول الله ﷺ رؤوفًا رحيمًا بأبنائه. رأيناه ﷺ شديدَ الحزن والبكاء عند وفاة ابنه القاسم، وكذلك عند وفاة ابنه إبراهيم وهو يوارى الثرى. ورأينا كيف احتضن بأبوته ورحمته ورأفته ابنتيه رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما، وشملهما بعطفه وحنانه ورعايته وشفَقته بعد تطليقهما من أبناء عمه أبي لهب، حتى لا ينكسر قلبيهما.
وواسى ﷺ ابنته زينب رضي الله عنها، حين بعثت إليه بقلادة أمها خديجة رضي الله عنها التي أهدتها إياها ليعفو عن زوجها أبي العاص بن الربيع بعدما أُسر في معركة بدر، فلما رآها بكى، ورق قلبه، وأمر بإطلاق زوجها ورد القلادة إليها (رواه الحاكم).
إنه النبي الأب الرحيم، الرؤوف، العطوف ﷺ.
3- الرحمة بأقاربه
تكفّله عليه الصلاة والسلام بتربية ابن عمّه عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه رحمةً وشفقةً ورأفةً بعمّه أبي طالب، وتخفيفًا للهمّ عليه، وحملًا لأعباء الحياة عنه في وقت الأزمة والقحط الذي أصاب مكة المكرمة، وكان سببًا في تكفّل أعمامه حمزة والعباس رضي الله عنهما لأولاد عمّه أبي طالب الآخرين؛ جعفر وطالبًا رضي الله عنهما، ليحملوا عنه الأثقال والأعباء. فرأينا رحمته وشفَقته وعطفه وحنوّه وأبوّته لسيدنا عليّ كرَّم الله وجهه وهو في بيت النبوة (السيرة لابن هشام).
ورأيناه عليه الصلاة والسلام يبكي البكاء الشديد ويشهق عند رؤية عمّه سيّد الشهداء حمزة رضي الله عنه شهيدًا وقد مُثِّل به في معركة أحد، وحزن عليه حزنًا كبيرًا، حتى نزل الوحي ليواسيه ويأمره بالصبر: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127].
4- الرحمة بأصحابه
فقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام رؤوفًا رحيمًا بأصحابه رضوان الله عليهم، يصفه الحق سبحانه وتعالى بالرأفة والرحمة بالمؤمنين، وهو خطاب عام لجميع المؤمنين حتى نرد عليه الحوض ونشرب من يديه الشريفتين شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا إن شاء الله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128].
هذه بعض المواقف وتجليات الرحمة والرأفة والشفقة على أصحابه، إذ إن خلقه مع أصحابه كان كله رحمة ورأفة وشفقة وعطف. فرأيناه عليه الصلاة والسلام يحنو ويرحم ويواسي ويزيح الهم والغم والأحزان عن الصحابة الرماة الذين خالفوا أمره، وكانوا بعض السبب في هزيمة المسلمين في معركة أُحد، التي كانت معركة استثنائية في ألمها وجرحها الغائر في القلوب والصدور، وشدتها وأحزانها. استُشهد فيها سبعون من خيرة الصحابة رضي الله عنهم، يتقدّمهم حِبّ رسول الله عليه الصلاة والسلام، عمّه سيدنا حمزة سيّد الشهداء، وقد مُثِّل به. ومع ذلك نرى نبي الرحمة يرحم ويحنو ويشفق ويرفع الأحزان عن أصحابه.
وهو القائد الرحيم العظيم؛ يختار الرماة ويؤمر عليهم قائدًا حليمًا رحيمًا؛ سيدنا عبد الله بن جبير رضي الله عنه، ويأمرهم بالمكوث فوق الجبل وإن مات هو وجنده، الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. إن الدارس لحركة الحروب والمعارك في العالمين إلى اليوم ليخرج بنتيجة أنّ كل القادة لا تأخذهم رحمة ولا شفقة ولا رأفة بالجنود؛ بل تجد القسوة والشدة في التعامل معهم.
ورأيناه عليه الصلاة والسلام كيف رقّ قلبه لسيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه، فلم يهنأ له بال حتى حرّره من الرق والعبودية، حينما اشترط اليهودي مالك سيدنا سلمان رضي الله عنه أن يزرع ثلاثمائة نخلة تُثمر في سنة (ومعلوم أنّ النخل لا يُثمر إلا بعد خمس سنين) وبأربعين أوقية من الذهب. فجمع له الحبيب عليه الصلاة والسلام النخل، وغرسها بيديه الشريفتين، فأنبتت النخل في عامه بإذن الله تعالى وأعطت ثمارها الطيبة. وكذلك جمع عليه الصلاة والسلام لسيدنا سلمان رضي الله عنه الذهب، فأخذ سيدنا سلمان رضي الله عنه حريته من اليهودي (السيرة لابن هشام).
5- الرحمة بقومه
وتتجلّى رحمة وعظمة الرسول عليه الصلاة والسلام بقومه حينما عفا عنهم يوم فتح مكة المكرمة، وهم الذين عذّبوه وحاصروه وأخرجوه، وتآمروا على قتله وقتلوا أصحابه وعذّبوهم في رمضاء صحراء مكة المكرمة. فقال لهم: “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا ترَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ” (السيرة لابن هشام).
ولما أرسل الله القهّار الجبّار لرسوله ملك الجبال ليُطبق على قومه جبال مكة الشامخة حين ضربوه فأدموه، أبى صلى الله عليه وسلم وعاملهم بغاية الصبر والحلم فدعا لهم ﷺ قائلا: “اللَّهمَّ اغفِرْ لقومي فإنَّهم لا يعلَمونَ” (السيرة لابن هشام).
6- الرحمة بالحيوان
ما أرحمك يا رسول الله، عليك الصلاة والسلام، حينما أتاك الجمل يبكي ويشكو لك من صاحبه الذي يُجوّعه ويتعبه ويقسو عليه، فوضعت يدك الشريفة على قفاه ومسحتها، فسكن وسكت عن الحنين وأوقف الدموع. وقلت لمالكه: «أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّككها الله؟ إنه شكا إليّ أنك تُجيعه وتُدئبه» (رواه أبو داود عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه).
والوقائع كثيرة في رحمة الرسول عليه الصلاة والسلام بالحيوان.
7- الرحمة بالجماد
وما أرحمك بأبي أنت وأمي سيدي يا رسول الله، عندما اشتاق وحنّ إليك جذع النخلة التي كنت تخطب قائمًا مستندًا إليه وفارقته، فسمع له أنينٌ وأزيز كأزيز النحل، فوضعت يدك الشريفة عليه واحتضنته فسكن. وقلتَ يا رسول الله، عليك الصلاة والسلام: «لو لم أحتضنه لحنّ الجذع إلى يوم القيامة» والحديث في صحيح البخاري.
وروى ابن حبّان: “أن الحسن كان إذا حدّث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إلى لقائه”.
والوقائع كثيرة في رحمة النبي عليه الصلاة والسلام للعالمين.
اللهم ارزقنا حبّه، والحنين إليه، والشوق إلى لقائه. واحشرنا في زمرته، وارزقنا الورود على حوضه، والشرب من يديه الشريفتين شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا. آمين يا رب العالمين.