د. محماد رفيع / مدير المركز العلمي للنظر المقاصدي في القضايا المعاصرة
تقديم
إذا كان كيان الأمة تم تجزيئه مرتين: الأولى بتجزئة جغرافيتها وفق معاهدة “سايس بيكو” الاستعمارية إلى دويلات قطرية، والثانية: تجزئة كيانها الثقافي ونسيجها الاجتماعي داخل تلك الأقطار بتناقضات أيديولوجية وإثنية وطائفية ومذهبية وغيرها، فإن إعادة بناء هذه الأمة في صيغة مجتمعات موحدة داخل أقطار التجزئة من خلال توافق وتحالف مجتمعي مطلب شرطي لازم للبناء الدستوري للمجتمع، وبدونه يتعذر البناء المطلوب للدولة وتضيع الحقوق الكبرى للجميع، لأن “الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته، بل لا بدَّ من التعاون، ولا تعاونَ إلاَّ بالتَّعارف” [1].
من أجل تحقيق ذلك المطلب الشرطي، يقدم الإمام عبد السلام ياسين فكرة الميثاق الجامع حلا عمليا يروم تحقيق مقاصد عملية ويستند إلى قواعد مؤمنة حافظة.
مقاصد الميثاق الوطني
من المقاصد العملية التي ينبغي تحقيقها من الميثاق في نظر الإمام: بناء تحالف مجتمعي داخلي؛ من خلال صياغة دستور جامع تقترحه على الأمة جمعية منتخبة، ليكون ذلك منطلقا وتمهيدا لحركية جديدة تتصدى لحل المشاكل الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحضارية المستفحلة [2]، وعلى رأس هذه المشاكل الجمع بين طوائف المجتمع ومذاهبه وإثنياته [3] في سلك هذا الدستور الجامع، للانتقال من حالة التمزق المجتمعي إلى حالة الائتلاف والالتئام، يقول الإمام ياسين: “لأن الانتقال من مجتمع متمزق الأطراف إلى مجتمع متصالح مع ذاته يتطلب توافقاً يلتف حوله الشعب المسلم بأكمله” [4].
فواقع الاختلاف داخل مكونات المجتمع لا ينفي إمكان الائتلاف على المشترك الجامع إذا ما أحسن تدبيره بمعيار الشريعة نصا ومقصدا [5]، فموجبات الائتلاف بين مكونات المجتمع المختلفة عديدة، ومنها ما ذكره ابن تيمية حين قال: “كل اجتماع في العالم لا بد فيه من التحالف، وهو الاتفاق والتعاقد على ذلك … فإن بني آدم لا يمكن عيشهم إلا بما يشتركون فيه من جلب منفعتهم ودفع مضرتهم، فاتفاقهم على ذلك هو التعاقد والتحالف” [6].
فللتعاون والتحالف مع المخالف الوطني في جلب العدل ودرء الظلم شواهد كثيرة تفصيلية وإجمالية كلية، نذكر منها [7]: عموم قوله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ” (المائدة: 3)، وهو أمر لجميع الخلق أن يعين بعضهم بعضا على البر والتقوى، كما ذهب إلى ذلك القرطبي [8]، فتقتضي الآية هنا وجوب التعاون والتعاضد على كل ما فيه مصلحة مشروعة تحت مسمى البر، وأولى البر الواجب التعاون عليه بين المؤالفين والمخالفين في هذا الزمان مقاومة أم المفاسد وأصل البلاء وهو الاستبداد وقرينه الفساد [9].
ولولا تعاون النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مع المخالفين من اليهود والنصارى والمنافقين في بناء مجتمع تعددي موحد بالمدينة على قاعدة وثيقة دستورية تضمن الحقوق الأساسية للجميع، ما أمكن الوصول إلى نتيجة بناء دولة من مجتمع تعددي تحكمه العدالة في كل شيء [10].
ومن أهم الكليات الشرعية التي تشكل موضوع التحالف المجتمعي بين مختلف الأطياف كلية العدل التي عليها بناء الكون كله، لأن “العدل نظام كل شيء” [11]، وصلاح الإنسان في العدل وخرابه في الظلم، قال ابن تيمية: “صلاح حال الإنسان في العدل، كما أن فساده في الظلم وأن الله سبحانه عدّله وسواه لما خلقه” [12].
فإذا كانت بعض التيارات الإسلامية ذات التوجه الظاهري والفهم السطحي للواقع السياسي المعاصر تنفر من أي تقارب أو تحالف مع المخالف العلماني واليساري والديني، استنادا إلى ما عليه القوم في نظرهم من الكفر والإلحاد وترك الصلاة والصيام وغيرها من شعائر الإسلام، وهو ما يقتضي بغض ما هم عليه، وعدم الركون إليهم، فمستندهم لا ينهض دليلا معتبرا يمنع التعاون مع المخالف اليساري وغيره، كما لا يقوى على نقض الأدلة الكلية والتفصيلية السابقة التي تشهد بالاعتبار للتعاون مع المخالف في القضايا المشروعة المندرجة تحت مسمى البر الذي أمرنا بالتعاون عليه، أما من الناحية التنزيلية فالأصل المعتمد في تحديد وترتيب موضوع التعاون مع المخالف في الزمان والمكان هو النظر المصلحي؛ الذي يقدر وجود المصلحة من عدمه في التعاون مع المخالف يساريا كان أو نصرانيا أو غيره.
ويرى الإمام أن الوسيلة العملية في تحقيق مقصد التحالف المجتمعي تنظيم حوار مجتمعي صريح وعلني “يشارك فيه كل حزب سياسي، وكل جزء من المجتمع المدني المتكوِّن، وكل صوت أُخرِسَ أيام تسلط التدجين السياسي، ليعبر الجميع عن رأيه دون إقصاء ودون وسوسة سرية متآمرة. يجب أن نعرض على أنظار الشعب المترقب أسرار الخيانة التاريخية التي سلبتنا مواردنا الخلقية والمادية وأطلقت العنان للارتشاء الذي أصبح أسلوبا طبيعيا يسير حياة الإداريين الفاسدين، المدمنين على كل أنواع الاختلاس والموبقات” [13].
ومن الوسائل العملية الأخرى التي يرى الإمام لزومها في تحقيق مقصد التحالف المجتمعي إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق قواعد العدالة والنزاهة، فإقامة العدل في الحكم والقضاء وفي توزيع الثروة ونفي الظلم بجميع صوره ومطاردة الظالمين ومحاسبة الفاسدين ومحاكمة المستبدين، هو ما لا يطبق إلا بالتعاضد والتعاون بين مكونات المجتمع، وتأجيل كل خلاف إلى ما بعد إقامة هذا الركن الركين للحياة الإنسانية، لأن الخلاف لا تحسن إدارته إلا في أجواء العدالة ودولة القانون الضامنة لحقوق المواطنين، وهي الضمانة لتحقيق شرط الاستقرار المجتمعي، يقول الإمام ياسين: “شرطان ضروريان لضمان الاستقرار الاجتماعي في دولة القانون، هما العمل والحق المضمون لكل فرد. لذا لا بد لأمة الإيمان أن تُؤَمِّنَ الحد الأدنى من العدل حتى لا يتضرر أحد، وحتى يتمكن كل فرد من المساهمة بكل اطمئنان في الجهد المشترك. فالظلم الذي سلط علينا من الخارج ليس سوى العقاب العادل للظلم الذي يمارسه بعضنا على بعض” [14].
وقد ذهب الإمام ياسين رحمه الله إلى أن مقتضى الاستقرار الاجتماعي الذي ينشده الميثاق يتوقف عمليا على استعادة كرامة المواطن وسلامته البدنية والنفسية وحريته وحقوقه المدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية [15]، كما أن الاستقرار السياسي الذي يسعى إليه الميثاق يتوقف على قاعدة “سيادة الشعب في تقرير مصيره وسياسته، وفي انتخاب حكامه وتبديلهم، وفي تنفيذ السياسة ومراقبة التنفيذ” [16].
قواعد مؤمنة للميثاق الوطني
يحتاج الميثاق الوطني في تحقيق مقاصده إلى إرسائه على قواعد مكينة، تضمن ديمومته وثباته، نذكر منها:
قاعدة الحرية والاستقلال
يحتاج الانجماع على قاعدة الميثاق الوطني إلى التحرر من كل ضغط، والاستقلال عن أي تأثير داخلي أو خارجي من أجل تنفيذ آمن لبنود الميثاق، لأنه كما قال الإمام ياسين: “لا يمكن لبنياننا أن يكون راسخا إذا ما أسس على جُرُف الانحراف الهاري. لن نكون سوى نسخ باهتة للآخرين، نسخ جوفاء ميتة، إذا ما تمادينا في استيراد أفكار الآخرين وقيمهم دون تمحيص” [17].
ومعلوم أن موجب القول بالميثاق الوطني أصلا هو الحاجة إلى الحرية، والحرية فطرة الإنسان فطر عليها، بحيث لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بها، فهي “حق للبشر على الجملة، لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل فقد أكن فيه حقيقة الحرية وخوله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة” [18]، كما أن للحرية وجهها التشريعي الخلقي، وهو ما قصده علال الفاسي حين قال: “الحريَّة جعلٌ قانوني وليس حقاً طبيعياً، فما كان الإنسان ليصل إلى حريته لولا نزول الوحي، وأنَّ الإنسان لم يُخْلَق حراً، وإنَّما ليكون حراً” [19]، وهو ما سماه راشد الغنوشي ممارسة المسؤولية ممارسة إيجابية [20].
غير أن سمو قيمة الحرية وضرورتها للإنسان في الوعي الجمعي لمجتمعاتنا تضاءل وكاد ينمحي لطول ما أذلهم الاستبداد وسامهم سوء العذاب، وهو ما يقتضي إعادة تربية المجتمع بتجديد وعيه بذاته وحاجته إلى الحرية، وقد نبه الإمام ياسين إلى خطورة هذا العائق حين قال: “لو كنا أسودا لما قبِلْنَا بغير الحرية بديلا. لكنَّ طباع النعاج فينا، وبلادتها، وخضوعها، أهَّلَتْنَا أن نُخَوَّفَ بالعصا فنخافَ، وأن نُقادَ فننقادَ، لا نَسْألُ عن الوِجهة والهدفِ، وأن تُجَزَّ أصوافُنا، وتُجْزَرَ ذواتُنا” [21].
ولزوم مبدأ الحرية والاستقلال في تأسيس الميثاق وتنفيذه سبيل ممهد لاستعادة كرامة الإنسان التي انتهكت وتنتهك يوميا بمنتهى الوقاحة في أوطان المسلمين، خصوصا وأن لنا من الدروس والمبادئ في سيرة نبينا عليه السلام بمكة والمدينة ما يعيننا في مد الجسور على قاعدة المواطنة والمروءة بين أهلنا داخل الوطن الواحد كما يرى الإمام [22].
قاعدة الغيرة الوطنية الصادقة
يرى الإمام ياسين أن مما يعين على إنجاح فكرة الميثاق الوطني أن تتعاون جميع الأطراف على قاعدة الغيرة الوطنية [23] الصادقة التي تجعل الجميع يحرص على خدمة الوطن وحمايته من أي اعتداء أو اجتزاء [24]، يقول الإمام ياسين: “على أرضية الإخلاص للوطن، والوفاء له، والاعتزاز بخدمته يمكن أن نمد جسورا للتعامل والتعاون مع ذوي المروآت والكفاءات، وأن نتحالَف معهم ونتعاهد. ذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة مع المشركين في زمان الجاهلية فيما سمِّيَ “حلف الفضول” [25].
قاعدة التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر
ثنائية التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر تقررت في الشريعة فريضة ماضية إلى يوم القيامة، قال الجويني: “الشرع من مفتتحه إلى مختتمه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر… يثبت لكافة المسلمين إذا قدموا على ثبت وبصيرة ” [26]، وهي الوسيلة التي تراقب بها الأمة أحوالها من أجل استصلاحها لأن “صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ” [27]، ويعرف الإمام ياسين ثنائية التآمر والتناهي بقوله: “ما التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر إلا اليقظة العامة، والوعي العام، والمشاركة العامة في الحياة العامة. وهذا هو لب السياسة” [28]، كما يرى الإمام أن تأمين هذا الحق في الاعتراض يمكن عموم المواطنين من المشاركة الإيجابية في الحياة العامة [29].
ومن شأن هذه القاعدة أن تشيع الحيوية واليقظة العامة في القاعدة الجماهيرية للميثاق الوطني، وإلا فإن تعطيل هذه الفريضة في نظر الإمام يفتح الباب واسعا للاستبداد والفساد [30] وما يتناسل منهما من أوبئة [31]، تتحول معها جماهير المواطنين إلى “رعية تابعة للحاكم، ساكتة، تنتظر ببلادة ما يقترحه “العبقري” على هرم السلطة، وما يأمر، وما يختار، وما به يجود” [32].
تلك هي نظرة موجزة عن رؤية الإمام ياسين لفكرة الميثاق الوطني الجامع لمختلف أطياف المجتمع، المؤسس لمجتمع أخوي متماسك وقوي عدلا وحرية وكرامة وديمقراطية، أرجو أن أكون قد وفقت في حسن عرضها، وإن تكن الأخرى فحسبي أني اجتهدت وما آلوت.
والحمد لله رب العالمين.
[1] السيوطي، جلال الدين. المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1/34.
[2] ياسين، عبد السلام. إمامة الأمة ص273.
[3] ياسين، عبد السلام. حوار مع صديق أمازيغي ص214.
[4] ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة ص249.
[5] ينظر تفاصيل ذلك في رفيع، محماد. النظر الشرعي في بناء الائتلاف وتدبير الاختلاف، القاهرة: دار السلام، طبعة 1/2012م.
[6] ابن تيمية، قاعدة في المحبة، تحقيق وتعليق د. رشاد سالم، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي، دون ت ولا رقم ط، ص120.
[7] ينظر دراسة تأصيلية تفصيلية للموضوع في رفيع محماد، التعاون مع المخالف في درء الظلم وجلب العدل، مقال ضمن كتاب الربيع العربي وأسئلة المرحلة (بالاشتراك)، منشورات مجلة منار الهدى المغربية، الرباط: مطبعة الجودة، طبعة 1/2012م، ص162 فما بعدها.
[8] ينظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، القاهرة: دار الكتب المصرية، طبعة2/1964م، 6/46.
[9] رفيع محماد. التعاون مع المخالف، المرجع السابق ص162.
[10] رفيع محماد. المرجع السابق ص164.
[11] ابن تيمية، مجموع الفتاوى 28/145-146.
[12] ابن تيمية، المصدر السابق 10/138.
[13] ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة ص250.
[14] ياسين، عبد السلام. الإسلام والحداثة ص271.
[15] ياسين، عبد السلام. العدل ص 331.
[16] ياسين، عبد السلام. المصدر السابق.
[17] ياسين، عبد السلام. المصدر السابق ص273.
[18] ابن عاشور أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، القاهرة: دار السنون ودار السلام، طبعة2010م، ص169.
[19] علال الفاسي، مقاصد الشَّرِيعَة الإسلامية ومكارمها، ط2، (الرباط: مطبعة الرسالة، 1979م)، ص244.
[20] الغنوشي، راشد. الحُرِّيات العامة في الدَّوْلة الإسلامية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ط1، 1993م ص38.
[21] ياسين، عبد السلام. إمامة الأمة ص107.
[22] ياسين، عبد السلام. العدل ص517.
[23] ياسين، عبد السلام. العدل ص514.
[24] ينظر رفيع، محماد. ربيع الشعوب العربية وأصول تدبير المرحلة، مقال ضمن كتاب الربيع العربي وأسئلة المرحلة، المرجع السابق، ص30.
[25] ياسين، عبد السلام. العدل ص515.
[26] الجويني، أبو المعالي عبد الملك. غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق أحمد عبد الحليم السايح وتوفيق علي وهبة، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، طبعة1/2011م، ص227.
[27] ابن تيمية، مجموع الفتاوى 28/329.
[28] ياسين، عبد السلام. حوار مع الفضلاء الديمقراطيين ص85.
[29] ياسين، عبد السلام. المصدر السابق ص90.
[30] ياسين، عبد السلام. في الاقتصاد البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، البيضاء: ط2/2003م.
[31] ياسين، عبد السلام. حوار مع الفضلاء الديمقراطيين ص93.
[32] ياسين، عبد السلام. الشورى والديمقراطية ص 48.