نحو تجديد معاني الفقه في الدين: نظرات في الأصول3- الفقه في الدين والصحبة

Cover Image for نحو تجديد معاني الفقه في الدين: نظرات في الأصول3- الفقه في الدين والصحبة
نشر بتاريخ

روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسند صحيح عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ يُرِد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةً قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ”.

في رواية الإمام البخاري رحمه الله زيادة تقربنا أكثر من شروط النصر، وترِدُ بنا منبع العطاء والخير. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ”.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري) عند شرحه هذا الحديث: وقد تتعلق الأحاديث الثلاثة (يعني الأجزاء الثلاثة للحديث) بأبواب العلم (…) من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح الله عليه به، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودا حتى يأتي أمر الله).

وقال الإمام المناوي رحمه الله في شرحه على الجامع الصغير: ووجه ارتباط هاتين الجملتين بما قبلهما أن إثبات الخير للمتفقه لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح اللّه عليه به على يد المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ثم ورثته).

“جنس أهل الفتح” لا يزال موجودا، و”فتحهم” يكون على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم “ورثته”. هذه هدية سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.

نقرأ الحديث قراءة الناظر في مستقبل المسلمين، ونقول وبالله التوفيق أن بين الفقه والفتح عطاء ربانيا وقسمةً نبويةً يختص الله بها من شاء من أوليائه الوارثين. عطاء وقسمة يتوسطان الوصيةَ بالتفقه والتبشيرَ بالظهور.

هذا يعني أن القنطرةَ بين الفقه والفتح صحبةٌ لأهل الوراثة النبوية. وإن شئت قل: إن الفقه في الدين بين يدي صحبة وارثة هو الشرط الكامل لتحقق النصر. وإن شئت قل: إن السيادة تحتاج إلى صحبة تُفَقِّهُنا في الدين. وإن شئت قل: متى اجتمعت الصحبة بالفقه فانتظر فتحا واستخلافا.

وبقدر كمال الوراثة في المصحوب، يكون كمال الفقه في الدين، وبالتالي كمال الظهور على العالمين. ذلك أن النقص في الإسلام إنما يحصل بغياب أمثال هؤلاء. أخرج الإمام الطبراني رحمه الله في (الكبير) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: تدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا:كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سمن الدابة، وكما ينقص الدرهم من طول الخباء. قال: إن ذلك لمَنْهُ، وأكبر من ذلك موت -أو ذهاب- العلماء).

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون أهل الصحبة الربانية المتصل سندها بالمربي الأعظم سببا فيما يفتحه الله على عباده المجاهدين. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ. ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ” 1 .

سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه نموذج من المتفقهين في الدين المباركين بأنوار صحبتهم للقاسم أبي القاسم. تَمَيُّزُه بهاتين الفضيلتين أَهَّلَتاه لأن يكون وجودُه مَظِنَّةَ الفتح والنصر. وفضل الله على أهل ولايته من ذوي القسمة والعطاء لا ينقطع إلى يوم القيامة. عن جنادة بن أبي أمية الدوسي رضي الله عنه قال: دخلت على عبادة بن الصامت وكان قد تفقه في دين الله) 2 . وفيه أيضا عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب عن أبيه أن عبادة بن الصامت أنكر على معاوية أشياء، ثم قال له: لا أساكنك بأرض، فرحل إلى المدينة. فقال له عمر: ما أقدمك إليَّ، لا يفتح الله أرضا لست فيها أنت وأمثالك، فانصرِفْ لا إمرة لمعاوية عليك).

لذلك ما فتئ الصحابة الكرام يوصون بالصحبة ويعتبرونها من أمارات الفقه في دين الله. عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: مِنْ فِقْهِ الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم) 3 .

وكان الصالحون يحرصون على مخاللة أهل الصحبة والفقه الواحدَ تلوَ الآخر. “عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْيَمَنَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا، قَالَ: فَسَمِعْتُ تَكْبِيرَهُ مَعَ الْفَجْرِ، رَجُلٌ أَجَشُّ الصَّوْتِ. قَالَ: فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مَحَبَّتِي، فَمَا فَارَقْتُهُ حَتَّى دَفَنْتُهُ بِالشَّامِ مَيِّتًا، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى أَفْقَهِ النَّاسِ بَعْدَهُ، فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَلَزِمْتُهُ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَتَتْ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا؟” قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “صَلِّ الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا، وَاجْعَلْ صَلَاتَكَ مَعَهُمْ سُبْحَةً”” 4 .

انظر رعاك الله منذ متى بدأت غربة هذا الدين، فَسَادَ قومٌ يؤخرون الصلاة عن ميقاتها. وانظر وفاءَ الغرباء بالعهد، وصبرهم على مرارة النقض. ينتهزون أنفاس الأكابر ليأخذوا عنهم “فقه النصيحة للولاة”.

ذكر الإمام معمر بن راشد رحمه الله في (جامعه) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أَوْشَكَ أن يخرجَ البَعْثُ فيقال: هل فيهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد؟ فيوجد الرجل والرجلان والثلاث، فيُستنصرُ بهم. ثم يخرج الجيش فيقال: هل فيهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد؟ فلا يوجد، فيقال: هل فيهم من صحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل والرجلان، حتى لو كان أحدهم من وراء البحر لركبوا إليه يتفقهون منه).

سبحان الله! أهلُ الصحبة يُستنصر بهم في الحرب، ويُقصَدون من أقاصي البلاد للتفقه في الدين.

هذا التأكيد على النظر فيمن نأخذ عنه فِقْهَنا راجع إلى دور الصحبة في تلقينها فقها كاملا شاملا جامعا، وفقها خالصا لله تعالى يُبتغى به وجه الله. الصحبة تضمن الاتباع الكامل والإخلاص التام. ذلك أن أهل الوراثة النبوية بما أوتوا من الفهم السديد هم أعلم الناس بدقيق السنة وجليلها، في عام الشؤون وخاصِّها. وهم بما أوتوا من النور أبصر الناس بما يخالط النيات ويداخل الإرادات من خَفِيِّ الشهوات. أخرج ابن عبد البر رحمه الله في (جامع بيان العلم وفضله) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قد علمت متى صلاح الناس، ومتى فسادهم. إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا). نقرأ نفس المعنى عند سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه لنعلم أن سادتنا الصحابة قد نهلوا من نفس المعين، ولِنَفهم أن الأكابر الذين يقصدهم عُمَر هم أهل النسبة القلبية من الصالحين التُّقاة. أخرج الطبراني رحمه الله في (الكبير) و(الأوسط) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا يزال الناس متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا).

ومتى صار الفقه في شرار الناس، فهي الغربة بعينها، وهي الفتنة تدخل على الشريعة بغير إذنها. ذلك أن التفقه لم يستند إلى صحبة وارثة بصيرة، فكان لغير الدين من المباهاة والمفاخرة والتماس الدنيا بعمل الآخرة. روى الإمام الحاكم رحمه الله في (مستدركه) عن أبان بن سليم بن قيس الحنظلي قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي أن يؤخذ الرجل منكم البرئ فيؤشر كما تؤشر الجزور، ويشاط لحمه كما يشاط لحمها، ويقال عاص وليس بعاص. قال: فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو تحت المنبر: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين، وبما تشتد البلية، وتظهر الحمية، وتسبى الذرية، وتَدُقُّهُم الفتن كما تَدُقُّ الرحا ثَفَلَها، وكما تدق النار الحطب؟ قال: ومتى ذلك يا علي؟ قال: (إذا تفقه المتفقه لغير الدين، وتعلم المتعلم لغير العمل، والتُمِست الدنيا بعمل الآخرة)).

وإنما أُتِيَ “المتفقهةُ” الناكبون عن طريق التبصر والاهتداء من صحبتهم لأهل الدنيا وأصحاب السلطان، فكانت الرزية في الدين أكبر من رزيتهم في أنفسهم. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَقُولُونَ نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا – قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ- كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا” 5 .

مثل هؤلاء توعدهم الحق سبحانه أشد الوعيد لما يضمرون من الشر فسادا وإفسادا، ولما يظهرون من الصلاح والتقوى والورع رياء ونفاقا وتهافتا على الدنيا وتنافسا فيها. عَنْ كَعْبٍ رحمه الله قَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ نَعْتَ قَوْمٍ يَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَل، وَيَتَفَقَّهُونَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَيَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْن، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ، فَبِي يَغْتَرُّونَ أَوْ إِيَّايَ يُخَادِعُون، فَحَلَفْتُ بِي لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ) 6 .

هذا “التفقه لغير العبادة” ما كان من سِمَة القرون الفاضلة، وإنما كان من أعراض الغربة التي بدأ يعيشها الدين منذ أَنِفَ “المتفقهة” أن يلتمسوا الفقه الكلي عند أهل النور، لذلك نجد الإمام الدارمي يروي عن الإمام الأوزاعي قولَه: أُنْبِئْتُ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِينَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ وَالْمُسْتَحِلِّينَ لِلْحُرُمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ). ويورد هذا القول في (مقدمته) تحت عنوان: [تغير الزمان وما يحدث فيه].


[1] رواه الإمام البخاري رحمه الله.\
[2] رواه الإمام الحاكم رحمه الله في (المستدرك).\
[3] رواه الإمام أحمد رحمه الله في (الزهد).\
[4] رواه الإمام أبو داود رحمه الله.\
[5] رواه الإمام ابن ماجه رحمه الله ورواته ثقات.\
[6] رواه الإمام الدارمي رحمه الله في (المقدمة).\