قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
ما أحوجنا اليوم لهذه الآية الكريمة تقرعُ أسماعنا، وتفزعُ قلوبنا، وتستنهضُ هممنا لنعود لجادة الصواب بعد انحرافنا عن طريق التربية الواقية الصحيحة، خاصة في زمن هيمنت فيه الماديات، وانتشرت الرذائل والمنكرات، واختلط الحابل بالنابل، وتلاشت القيم وكثرت الغوائل، وانفلت عقد الأخلاق وما أحد يستنكر أو يحاول.
لقد وجهنا بوصلة الرعاية الأبوية كلّيا نحو توفير المأكل والملبس والمركب والعلاج وكل لوازم الراحة لفلذات أكبادنا، مع هوس شديد بتعليمهم تعليما حداثيا جيّدا يرقى بهم إلى أعلى المراتب الدنيوية، متناسين مراتبهم الأخروية، وكأن الدنيا دار قرار وليست دار فناء، حتى أننا لم نعد نفرق بين مفهوم التربية ومفهوم الرعاية. فالرعاية إعالة وإمداد وحفظ وتكفل منا بمتطلبات حياة الأبناء ليتمتعوا بعيشة كريمة في كنف بيئة أسرية سوية، بخلاف التربية التي هي تغيير باطني لروح الإنسان ونفسه، تغييرا ينبني على القلب والعقل والإرادة من خلال التربية النبوية المتوازنة.
وبهذا الفهم غير السوي للتربية الواقية المطلوبة منّا في الآية الكريمة، تُهنا في لُجج الدنيا وفوضاها العارمة عن تربية أولادنا، غافلين عن الخطر المحدق بهم من كل جانب، والذي يستهدفهم بتخطيط ممنهج وغايات خسيسة، حتى أضحى الواحد منهم حائرا بائرا منسلخا من هويته، فاقدا لقيم آبائه وأجداده، منحرفا في أفكاره، سطحيا في أهدافه، مهووسا بالدرهم والدولار، مستخفّا بسنّة النبي المختار، ملتفتا عن صحبة الأخيار.
الآية الكريمة قرعٌ لطبول الآذان، وتخويف للجنان، وتحذير من الرحيم الرحمان لأهل الإيمان، من مؤمنين ومؤمنات أن لا يفرطوا بالأمانة العظمى، أمانة تربية النشء على عدل وإحسان.
تربية مولود ولد على الفطرة، فنسب إلينا، وحملنا أمانة تعهده، والتكفل بتربيته تربية إيمانية راقية واقية. ولن تعطي هذه التربية أكلها إلا إذا كان تعهدنا له تعهّدا يوميا، وكانت العناية به وسقي حوضه مستمرّا، حتى يَثبتَ ويَنبتَ وتُزهر وردتُه وتُثمر شجرتُه.
الآية القرآنية أمر من صاحب الأمر سبحانه لكل أب وأم بتقوى الله، وطاعته، والاستقامة على أمره، وترك محارمه، وقاية لنفسيهما ولأبنائهما من نار وقودها الناس والحجارة.
تربية المولود ورياضته هي من أوكد الأمور وأشدّها على الوالدين، إنها عقبة تحتاج إلى اقتحام… مع التسلح بسلاح الإيمان والخبرة والتوكل على الله ثم الدعاء.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبي أمانة عند والديه. وهو قابل لكل ما نقش، ومائل لكل ما يمال به. وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة. فإن عُوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه ومعلم له ومؤدب) 1.
أبناؤنا ثمرات تربيتنا، فإمّا نسير بهم نحو الظِّلال، أو نحيد بهم نحو الضَّلال. إن غرسنا في نفوسهم الخير والصلاح، وعلمناهم الحلال والحرام والمباح، وحصّناهم من رفقة سوء وصورة سوء تشرخ الأرواح، نكون قد وضعنا أقدامهم على روض الهداية والفلاح.
روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” 2.
في الحديث النبوي إشارة قوية إلى عظم مسؤولية التربية الإيمانية الواقية الملقاة على عاتق الوالدين، والتي سينتج
عنها ولد صالح يدعو لهما بظهر الغيب، فيجود الملك الديّان جلّ جلاله ويجعل من ذلك الدعاء حسنات تُثقل الميزان. حسنات لا تنقطع ما دام الولد -ذكرا كان أو أنثى- يدعو لأمّه وأبيه.
إنّه ولد صالح نِتاج عمل صالح، وغلّة تربية صالحة، وحاصِل جهد ليل ونهار واستعانة بالعزيز الغفار.
يقول الإمام المرشد رحمه الله تعالى: (فإن كمال المرأة الوظيفي وكمال الرجل، أبوين مسؤولين مربيين، هو غاية ما يراد منهما تحقيقه حفظا لفطرة الله، ونشرا لرسالة الله، وخدمة لأمة رسول الله. ما يرفع المرأة إلى القداسة إلا أمومتها، وما يرفع الرجل إلا أبوته) 3.
إذن فمسؤولية الوالدين في تربية أبنائهما تقتضي حفظ الفطرة السليمة، والمشاركة في نشر رسالة الله عبر تشرب هؤلاء الأبناء تعاليم الإسلام ومبادئه وأخلاقه وقيمه السامية من الآباء والأمهات، لينصهروا في خدمة دين الله وخدمة أمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم معطين القدوة والمثال، مقتحمين عقبات الدعوة والجهاد.
هذا هو وسام الأمومة الحقيقي؛ أن تربي مجاهدين أمناء أقوياء في صفوف الدعوة، لا أن تنجب غثاء كغثاء السيل تهمله فينجرف نحو الملذات والفتن والإعلام الفاسد، والشارع السائب والرفقة المضلة.
أما وسام الأبوة فهو تعهد الزرع بالسقي والمصاحبة وتوفير البيئة الإيمانية الحبلى بقيم الإسلام ومبادئه السمحة حتى يشتد عود الزرع ويستوي على سوقه، فيكون عملا صالحا لوالديه يغيظ أعداء الله تربية وأخلاقا وجهادا.