نداء آية.. أين يضعك امتحان المحبة؟

Cover Image for نداء آية.. أين يضعك امتحان المحبة؟
نشر بتاريخ

من منا لا يفيض قلبه حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك النبي الذي جسَّد الرحمة والهدى، وأضاء للبشرية دروب الخير؟!

هو سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ولا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وأكرمهم،  وأفضل الناس منزلة عند الله، وأعلاهم درجة، وأقربهم زلفى، وصاحب الشفاعة العظمى، وأول من يفتح له باب الجنة، وأكثر الأنبياء تابعا، وأنه صاحب لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب الحوض، وصاحب الوسيلة وهي درجة في الجنة لا تكون إلا له صلى الله عليه وسلم، وهو إمام النبيين وخطيبهم يوم القيامة.

ضرب صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة في حرصه الشديد على هداية الناس جميعاً، فدعا قومه والقبائل الأخرى، والملوك والأمراء، بل دعا الناس جميعا إلى الإسلام، وكان يوجه دعوته إلى من أحبوه ووالوه، وإلى من أبغضوه وعادوه، وذلك كله حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على دعوة الناس وهدايتهم إلى الله، ولذا قال الله تعالى عنه وعن رسالته وبعثته: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). كان أرحم الخلق بأمته، حتى وصفه القرآن: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة: 128). لم يكن حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته مجرد دعوة، بل تجسد في مواقف عملية: قال تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم، أي يبذل جهده لدفع الضر عنكم وجلب الخير.

و لم يقتصر حرصه على الدعاء والتمني، بل جاوزه إلى مشهد بالغ التأثير: قال صلى الله عليه وسلم:  عَنْ جابرٍ – رَضْيَ اللهُ عنه – قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَثَلِي ومَثَلُكُمْ كَمَثلِ رَجُلٍ أوْقدَ نارًا، فجعَل الجَنادِبُ والفَراشُ يَقَعْنَ فيها وهو يَذُبُّهنَّ عنها وأنا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عن النَّارِ، وأنتم تَفَلَّتونَ مِنْ يَدِي» (رواه مسلم).

انظر رحمك الله: هو يمد يديه لينتشلنا من ألسنة النار، ونحن نتفلت! هو يستميت في حجزنا عن السقوط، ونحن ننساق كالفراش إلى الهلكة! أيُّ قلب يسمع هذا ولا يذوب محبة وشوقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟

الحرص النبوي يلاحقنا رحمةً بنا، لكن الامتحان أن نصدق نحن في محبتنا له، فنجاهد شهواتنا، ونبذل أموالنا وأنفسنا حيث يأمرنا الله، وإلا صار حبّنا كلماتٍ على الشفاه لا تزن عند الله جناح بعوضة.  

قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: ”من علامة محبّة العبد لربّه ورسوله ﷺ أن يصدُق في الاتباع، فيبذل جهده وجهاده في طاعة الله ورسوله، يصبر على البلاء، ويقتحم العقبات. أما من اكتفى بالدعوى والدموع فليس بصادق في المحبة، مهما رَقّت العبارات ولانت الكلمات” 1

ومن أعذب ما يذيب القلوب حديثه الشريف حين خرج إلى بقيع الغرقد، فسلّم على أهل المقابر وقال: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وددت لو قد رأيت إخواني فقال الصحابة متعجبين: أوَلسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني” (رواه مسلم).

يا لها من منزلة عظيمة! لم يكتف أن يسميهم مؤمنين أو أتباعًا، بل رفعهم إلى مقام الأخوّة. تخيّل أن حبيبك صلى الله عليه وسلم تمنى أن يراك، وأنه انتظر لقاءك بشوقٍ يومَ تجتمع به عند الحوض.

هل يليق أن نزعم محبته ثم نتأخر عن سنّته، أو نتقاعس عن بذل أنفسنا وأموالنا في سبيله؟

فلنجعل إذن شوق النبي صلى الله عليه وسلم إلينا سببًا في استنهاض عزائمنا: إن كان هو قد تمنى لقاءنا، وأمسك بأيدينا حذرًا علينا، فهل يليق بنا أن نتفلت من يده؟

إن المحبة الصادقة هي التي تُربّي في القلب الشجاعة على مخالفة الهوى، وتُولّد في النفس قوة في بذل ما تحب من أجل من تحب.

قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “محبَّةُ رسولِ الله ﷺ ليست دعوى باللسان، ولا دموعاً على الوجدان فحسب، ولكنها اتِّباعٌ وطاعةٌ وجهادٌ في سبيله. من قدَّم هواه على أمر رسول الله ﷺ فليس بمحبٍّ صادقٍ، وإن أكثرَ من القول والدموع” 2.

من فيض الفطرة إلى مقام الصدق

المحبة لرسول الله ﷺ تنبثق في القلب كما ينبثق النور في الفجر؛ يولد بها الإنسان مفطورًا، فإذا سمع ذكره رقّت الروح، وإذا تأمل خُلقه انجذبت النفس، وإذا لامس شيئًا من بركة رسالته امتلأ الوجدان حنينًا. لكنها محبة ما تزال في طور البذرة: ودٌّ فطري، بهجة وجدانية، عطية أولى من الله.

غير أنّ الطريق لا يقف عند هذا الحد؛ فالمحبة الحقيقية هي التي تُزهر ساعة الامتحان، حين تتزاحم المحاب وتدعو الدنيا إلى نفسها، فينهض القلب ليقول: “بل الله ورسوله أحبّ إليّ”. هناك فقط يتجلّى صدق الدعوى؛ في عملٍ وطاعةٍ وجهادٍ وبذلٍ وصبرٍ على مخالفة الهوى.

إنها رحلة من الانفعال إلى الفعل، ومن العاطفة العابرة إلى العبادة الدائمة. بذلك تتحوّل محبة النبي ﷺ من شعورٍ يدفئ الخاطر إلى مقام عالٍ يزكّي الروح، ويجعلها عبادةً يُرضى عنها عند الله.

فجاءت آية التوبة فاصلةً بين الصادق والمدّعي، لتضع الإيمان على محكّ المحبة، وتمتحن صدق الولاء في ميدان التضحية؛ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ (التوبة: 24).        

إذن فالمعادلة واضحة:

– محبّة فطرية: عاطفة طبيعية يشترك فيها كلُّ الناس.

– محبّة ممحَّصة: ابتلاء عمليّ، يظهر في تقديم أوامر الرسول ﷺ على هوى النفوس، وجهاد النفس والمال في سبيل الله.

وضعت الآيةُ المؤمنَ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع أعظم المتعلقات الدنيوية، والخطاب فيها للمؤمن نفسه، تحضّه على أن يجعل محبّة الله ورسوله والجهاد في سبيله فوق كلّ رابطة ومصلحة. وقد وصفها الزمخشري بقوله: “آيةٌ شديدة، لا ترى أشدّ منها”.

كفّة المتعلّقات الدنيوية

· الروابط الأُسرية: الآباء، الأبناء، الإخوة، الأزواج.

· الروابط الاجتماعية: العشيرة.

· المتعلّقات المادية: الأموال المكتسبة، التجارة المخشَى كسادها، والمساكن المرضيّة.

كفّة الأصول العليا

· محبّة الله.

· محبّة رسول الله ﷺ.

· الجهاد في سبيل الله.

توازن الآية بين الكفتين توازنًا كاشفًا: لتُظهر أيُّ المحبتين أصدق، وأيّهما أعمق رسوخًا في القلب. فالمحبّة لله ولرسوله إن صدقت، غلبت سائر المحبّات، حتى تصير ميزانًا للولاء والاختيار والمسير.

لقد أنزل الله تعالى آية التوبة الرابعة والعشرين لتكشف جوهر الامتحان الإيماني: هل يُقدِّم العبد رضا الله ورسوله والجهاد في سبيله على محبوباته من أهلٍ ومالٍ وراحةٍ ودنيا؟

لقد اختبر بعض المسلمين يومئذ بهذا البلاء، فآثروا بيوتهم وأموالهم وأرحامهم على الهجرة والجهاد، فجاء الوعيد شديدًا: ﴿تَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وتوعَّد الله من قدَّم الدنيا على طاعته بالفسق والحرمان من هدايته.

وهنا يتأكد أن المحبة الصادقة ليست كلماتٍ ولا أشواقًا عاطفية، بل اقتحامٌ لعقبات البذل والتضحية.

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “المحبّة الصادقة لا تكتفي بالشعور والعاطفة، بل تدفع صاحبها إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى البذل في سبيل الدعوة، وإلى الصبر على البلاء. فالمحبّة التي لا تُثمر عملاً ولا تقتحم ميادين الجهاد محبّة عاجزة، لا حظَّ لها من القرب عند الله” 3.

من محبةٍ تسكن القلب إلى جهادٍ يحرّك الجوارح 

المحبة في أصلها نفحة سماوية، خيطٌ من نور يشدّ القلب إلى الله جلّ وعلا، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (البقرة: 165)؛ بها يرقّ وجدان المؤمن عند ذكر الحبيب المصطفى ﷺ، وتلين الجوارح لطاعة الخالق. لكن هذه المحبة، إن بقيت دموعًا أو مشاعر، لم تبلغ كمالها؛ إنما كمالها أن تُترجم سلوكًا واقتحامًا للعقبات، وحركةً في الأرض تعبُر بالعبد من الانفعال إلى العمل، قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (البلد: 11). 

قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “المحبّة لله عز وجل ولرسوله ﷺ لا تُصدَّق إلا بالعمل والجهاد؛ فبقدر ما يحبّ العبد ربَّه يكون بذله، وبقدر ما يصدق في حبّه يكون إحسانه؛ فالدعوى التي لا تَصْدُقها الأعمال، دعوى عاجزة، وادّعاء فارغ. الجهادُ ثمرةُ المحبّة، والمحبّةُ زادُ المجاهد” 4.

وهنا يتبيّن أن السؤال الجوهري ليس: هل نحبّ؟ بل: ماذا تصنع فينا هذه المحبة؟ فالحبُّ الذي لا ينهض بصاحبه للطاعة والجهاد، حبٌّ ناقص لم يتحرّك من الدعوى إلى البرهان. ومن هنا كان الجهاد الامتحان الطبيعي للمحبة؛ لأنه يقتضي تقديم أمر الله ورسوله فوق كل محبوب دنيوي، كما قال سبحانه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْأَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ (التوبة: 24).

فالجهاد في جوهره ليس حركة جسدٍ ولا بذل مالٍ فقط، بل ثمرة محبة متجذّرة في القلب؛ تُثبّت المؤمن وقت الفتنة، وتجعله يُؤثر الآخرة على العاجلة، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت: 69). ولهذا كان الجهاد علامة على صدق المحبة؛ فلا يثبت فيه إلا من امتلأ قلبه حبًّا لله ورسوله. 

“ومن الإيمان أن يتحرك العبد في جماعة المسلمين، يخدم دعوتهم، ويجاهد نفسه وهواه، ويصبر على الأذى في سبيل الله. العزلةُ والانزواء ليست خُلُقَ المؤمن المُحِبّ” 5.

وهكذا تلتقي المحبة والجهاد: المحبة تشدّ القلب إلى السماء، والجهاد يحرّك الجوارح في الأرض بدين الله. ومن جمع بينهما كتب عند الله في ديوان الصادقين، كما قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (الأحزاب: 23). فهؤلاء هم الذين تجردت قلوبهم لله، وبلغ حبهم رتبة العمل والبذل والثبات، حتى صار جهادهم عبادةً، وعبادتهم جهادًا.

 “جهاد النفس والمال هو مظهر المحبّة، وبه يترقّى المؤمن في مدارج الإحسان حتى يبلغ مقام الصدق” 6.

فالمجاهد الصادق لا يقيس جهده بميزان الغلبة أو الخسارة، بل بميزان إخلاصه وصدق توجّهه إلى الله. يسير في دربه واثقًا أن النهاية محسومة لأهل التقوى، متشبثًا بوعد مولاه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص: 83). فإذا استقر هذا اليقين في قلبه، ظلّ ثابت الجَنان، قوي العزيمة، لأنه يدرك أن كل جهد يبذله قربة، وكل تضحية يقدّمها مدرج إلى الجنة ووسيلة لبلوغ رضوان الله الذي لا يزول.

فالقرآن يربّينا على أن المحبة الحقّة تُترجم ولاءً لله ورسوله، وبراءةً من كل ما يصدّ عن سبيله، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ (المجادلة: 22). فالموالاة هنا ثمرة الحب، والبراء ثمرة الإخلاص.

المحبّة الصادقة جهادٌ، والولاءُ برهانها

المحبّ لرسول الله ﷺ لا تُغريه الدنيا بزخرفها، ولا تُزحزحه الفتن عن سبيل الحق، فقد باع هواه برضى مولاه، ووهب قلبه لمن هداه. فالمحبّة الحقّة لا تكتفي بالعاطفة الهادئة، بل تُترجم ولاءً لله ورسوله، وتمييزًا نقيًّا بين أهل الهدى وأهل الغواية.

ففي ميزان الإيمان يتقدّم حبّ الله ورسوله على كلّ حبّ آخر، ويعلو أمر الله على كلّ أمر سواه؛ ومن لم يُختبر قلبُه بهذه الموازين فمحبّته لا تزال في أول الطريق.

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْأَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا (التوبة: 24).

الولاء إذن ليس شعارًا مرفوعًا، بل موقفًا يُختبر ساعة التزاحم، وبراءٌ من طريق الباطل بميزان البصيرة لا باندفاع الجفاء. هو انتماءٌ يتطهّر من شوائب المصلحة، وينمو في ظلّ النور حتى يبقى القلب وفيًّا والصفّ صافيًا والطريق إلى الله مستقيمًا.

“الولاءُ برهانُ الحُب؛ فالحُبّ لله ورسوله لا يقوم إلا على كمال الطاعة وصدق النصرة، وإلا ظلّ حُبًّا عاطفيًّا لا يُثمر سلوكًا ولا يُورّث مقامًا” 7.

فلنتدبّر إذن هذه الآية من سورة التوبة، تدبّر مَن يريد أن يجعل من القرآن منهاجًا للحياة، لا تلاوةً للبركة. نتأمّلها حتى تُورق فينا عملًا، وتُثمِر خلقًا، فيصبح القرآن في مسيرتنا حياةً تنبض، لا حروفًا تُتلى.

وبذلك تصبح الآيات حياة.


[1] عبد السلام ياسين،  الإحسان، الجزء الثاني، ص 73 – 74.
[2] عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ج 1، ص 213 – 214.
[3] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 74 – 75.
[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: تربية وتنظيم وزحف، ص 186 – 187.
[5] عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ج 1، ص211.
[6] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص77.
[7] الإمام عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 74.